الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأحد، سبتمبر 14، 2025

عودة النخب المغربية نحو سياسة جديدة لبناء القوة الناعمة: عبده حقي


لم يعد ملف هجرة الكفاءات المغربية يُقرأ فقط في خانة الخسارة البشرية والمعرفية، بل أصبح جزءاً من الخيارات الاستراتيجية للدولة في سياق إعادة تشكيل موقع المغرب داخل الخارطة الإقليمية والدولية. فالمبادرات الأخيرة التي تقودها كبريات المجموعات الاقتصادية المغربية، مثل بنك أفريقيا والتجاري وفا بنك وماناجيم، لتنظيم عودة النخب الشابة من أوروبا إلى المغرب، تكشف عن تحوّل عميق في نظرة المغرب إلى رأسماله البشري بالخارج.

في ظل التنافس المتصاعد بين العواصم المغاربية والإفريقية على استقطاب العقول، اختار المغرب أن يتجاوز مقاربة "وقف النزيف" نحو مقاربة أكثر طموحاً قوامها التحويل الإيجابي لهجرة الأدمغة إلى رصيد استراتيجي. إن هذه العودة المنظمة للنخبة تعني، عملياً، توجيه كفاءات متخرجة من أرقى الجامعات الفرنسية إلى خدمة المشاريع الوطنية الكبرى: من الطاقات المتجددة والذكاء الاصطناعي إلى التمويل الأخضر والبنية التحتية العابرة للقارات.

لا يمكن فصل هذه المبادرات الخاصة عن إرادة سياسية أوسع تسعى إلى جعل المغرب مركزاً إقليمياً للاستثمار والمعرفة. فبرنامج الإصلاحات المرتبطة بمناخ الأعمال، ومشاريع البنية التحتية العملاقة مثل ميناء طنجة المتوسط وخطوط القطار فائق السرعة، كلها تحتاج إلى موارد بشرية متقدمة قادرة على تشغيلها وتطويرها. وهنا تتحول النخب العائدة إلى حلقة وصل بين التجربة الأوروبية والخبرة الوطنية.

هذه السياسة لا تعكس فقط حاجة اقتصادية، بل تحمل أبعاداً رمزية ودبلوماسية. فعودة أبناء الجالية المغربية المتفوقين تمثل رسالة إلى الداخل والخارج بأن المغرب قادر على أن يكون بلداً جاذباً للكفاءات وليس منفرا لها. وبذلك يُعاد تعريف صورة المغرب في الخارج: من بلدٍ يصدر اليد العاملة إلى وطن يستقطب العقول المبدعة.

غير أن نجاح هذه السياسة يظل رهيناً بمدى قدرة المؤسسات على خلق بيئة مؤسساتية وعلمية مرنة، تحمي حرية الإبداع وتفتح المجال للبحث والابتكار. فالنخب العائدة من أوروبا لن تقبل الاشتغال ضمن منظومات بيروقراطية جامدة، بل تحتاج إلى فضاء منفتح يوازي طموحاتها العالمية.

إن رهان المغرب اليوم لا يقتصر على إعادة الأدمغة إلى الوطن، بل يتجاوز ذلك إلى صياغة استراتيجية وطنية متكاملة تجعل من هذه الطاقات قوة ناعمة داعمة لمشروع الدولة الحديثة. فعودة النخبة المغربية من أوروبا هي من دون شك مؤشر على تحول سياسي–استراتيجي يهدف إلى تموقع المغرب كدولة صاعدة في زمن المنافسة على العقول والمعرفة.

0 التعليقات: