الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الجمعة، سبتمبر 12، 2025

المغرب في مرآة عصره الحديث : (28) نهاية السلسلة ملف من إعداد عبده حقي


على امتداد سبعة وعشرين حلقة، حاولت هذه السلسلة أن تستعرض أهم المنعطفات التي عاشها المغرب منذ منتصف القرن العشرين إلى مطلع الألفية الثالثة. لم يكن الهدف مجرّد سردٍ خطّي للأحداث، بل قراءة استطلاعية تكشف كيف شكّلت المحطات الكبرى صورة المغرب عن نفسه في مرآة عصره. فالتاريخ هنا لم يكن خلفية صامتة، بل نصاً حيّاً يُقرأ من جديد كلما تغيّرت الظروف.

من الاستقلال سنة 1956 وما تلاه من مخاض بناء الدولة الوطنية، مروراً بتجربة التعددية الحزبية وصراعاتها، وصولاً إلى سنوات التوتر والانفراج، ثم مرحلة انتقال الحكم الملكي عام 1999 وما تلاها من إصلاحات دستورية واجتماعية واقتصادية وسياسية، ظلّ المغرب في حوار دائم مع عصره: يتأثر بتحولاته الدولية والإقليمية، ويبتكر في الوقت ذاته صيغاً خاصة لمواءمة التقاليد مع متطلبات الحداثة.

إذا كانت العقود الأولى من الاستقلال قد عرفت احتكاكاً طاحنا بين السلطة والمعارضة، فإن مغرب بداية الألفية الثالثة تجرأ على مواجهة ماضيه من خلال تجربة العدالة الانتقالية. لقد مثّلت "هيئة الإنصاف والمصالحة" علامة مائزة في العالم العربي، إذ جسّدت إرادة سياسية للاعتراف والانفتاح على الذاكرة الجماعية. كان ذلك جزءاً من إعادة صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع، ونقطة انطلاق نحو بناء مشروع وطني يقوم على الثقة والمشاركة.

الخيط الناظم لتجربة المغرب الحديثة هو السعي إلى مواءمة القوانين مع تطورات المجتمع. فقد شكلت مدونة الأسرة عام 2004 محطة في تكريس حقوق المرأة، بينما مثّل دستور 2011 نقلة نوعية في تأكيد الحريات الفردية والجماعية، وترسيخ مبادئ فصل السلط والاعتراف بالبعد الأمازيغي والجهوي. هذه الإصلاحات شكلت انعكاساً لحركية اجتماعية وحقوقية دفعت المغرب إلى إعادة النظر في أسس شرعيته الحديثة.

إلى جانب الإصلاحات السياسية، شكّلت الأوراش التنموية الكبرى عنواناً آخر للعهد الجديد. فمشروع طنجة المتوسط أعاد رسم خريطة المغرب اللوجستية، ومركّب "نور ورزازات" الشمسي جعل المملكة رائدة في الطاقات المتجددة. أما "المبادرة الوطنية للتنمية البشرية" فكانت محاولة لإعادة توزيع ثمار النمو، ومواجهة الفقر والهشاشة في المدن والقرى على السواء. هذه المشاريع جعلت المغرب ينظر إلى نفسه كدولة صاعدة تسعى إلى الجمع بين الانتماء الإفريقي والموقع المتوسطي والحلم الأطلسي.

لا يمكن لقراءة المغرب في مرآة عصره الحديث أن تكتمل من دون التوقف عند القضية الوطنية الأولى، قضية الصحراء المغربية. فقد شكّلت هذه القضية منذ منتصف السبعينيات محوراً أساسياً لتلاحم الدولة والمجتمع، وإطاراً حدد مسار السياسة الخارجية والداخلية على السواء. وفي العهد الجديد، تبلورت مقاربة أكثر وضوحاً تقوم على الجمع بين الدفاع عن الشرعية التاريخية والقانونية، وتطوير أفق واقعي للحل من خلال مبادرة الحكم الذاتي التي قُدمت سنة 2007 كخطة عملية وجدّية لإنهاء النزاع المفتعل. هذه المبادرة، التي لاقت إشادة دولية واسعة واعتُبرت مرجعية أساسية لدى مجلس الأمن، تعكس قدرة المغرب على طرح حلول مبتكرة تحفظ السيادة الوطنية وتفتح آفاقاً للتعايش والتنمية المشتركة في الأقاليم الجنوبية. إن استكمال الوحدة الترابية شكل مساراً دبلوماسياً وتنموياً متواصلاً تُوِّج بفتح قنصليات عشرات الدول في العيون والداخلة، وبإدماج الصحراء في مشاريع كبرى تجعلها قطباً استراتيجياً نحو إفريقيا وأطلسياً في آن.

ورغم هذا الزخم، يبقى التحدي الأكبر ماثلاً في ضمان العدالة الاجتماعية، وتقليص الفوارق بين الجهات، وربط الإصلاحات المؤسسية بالتحولات الاقتصادية والثقافية العميقة. المغرب اليوم في مواجهة عالم مضطرب: تحولات مناخية تهدد أمنه المائي والغذائي، ضغوط اقتصادية عالمية تفرض مرونة جديدة، وصراعات إقليمية تجعل من الدبلوماسية أداة حاسمة لحماية المصالح العليا.

تدلّ تجربة المغرب في العصر الحديث على أن الأمة التي تتصالح مع ذاكرتها وتعيد صياغة علاقتها بالماضي قادرة على شق طريقها نحو المستقبل بثقة. السلسلة التي امتدت عبر 27 حلقة لم تكن سوى محاولة لرصد كيف ينظر المغرب إلى نفسه في مرآة التاريخ، وكيف يعيد إنتاج معاني السيادة، والحرية، والعدالة، والتنمية.

اليوم، يقف المغرب أمام لحظة جديدة، لا تُقاس فقط بإنجازاته في المصالحة أو الإصلاح أو التنمية، بل بقدرته على تعميق هذه المكتسبات وترسيخها في الممارسة اليومية. فالمستقبل لن يُبنى على الوعود، بل على استدامة السياسات وتفعيل سيادة القانون والارتقاء بالإنسان باعتباره المحور المركزي لكل مشروع وطني.

إنّ مرآة المغرب الحديث لا تعكس فقط ماضيه وأحداثه، بل تحمل صورة وطنٍ يبحث باستمرار عن ذاته، ويعيد ابتكار هويته بين التقاليد والحداثة، بين المحلي والكوني، بين الذاكرة والطموح. وإذا كان الماضي قد علّم المغاربة أن بناء الدولة مسار طويل ومليء بالتحديات، فإن المستقبل يضع أمامهم فرصة لصياغة نموذجٍ مغربي خاص للتنمية والحرية والعدالة.

وبهذه الرؤية، تختتم هذه السلسلة مسارها، تاركة الباب مفتوحاً لقراءات جديدة، لأن التاريخ ليس نصاً منغلقاً، بل أفقٌ دائم لإعادة الاكتشاف والتأويل.

وإذ تختتم هذه السلسلة كذلك في محطتها الثامنة والعشرين، أجد من واجبي أن أقدم اعتذاري الصادق إن غابت بعض التفاصيل أو سقطت سهواً محطات وشخصيات كان لها أثر بالغ في رسم معالم المغرب الحديث. فالتاريخ، بثرائه وتشعبه، أوسع من أن يُختزل في صفحات محدودة، والذاكرة الوطنية أعمق من أن تُحاط بكل مكوناتها في هذا الجهد المتواضع. إن أي نسيان أو هفوة لا تعني إغفالاً لقيمة هؤلاء الرجال والنساء الذين بصموا، كلٌّ من موقعه، مسار الأمة وتركوا في الذاكرة المغربية أثرًا لا يُمحى. وما هذه السلسلة إلا اجتهاد شخصيا تأمليا مفتوحا على المراجعة والتصويب، وفاءً للحقيقة واحتراماً لذاكرة الوطن.

انتهى


0 التعليقات: