الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الخميس، مايو 22، 2025

في تطوّر واجهات وسائل التواصل الاجتماعي واصطناع القرب


منذ أن بدأت أستخدم وسائل التواصل الاجتماعي، لم أكن أدرك أنني لا أتواصل فقط، بل أُعيد تشكيل وعيي البصري والبشري عبر واجهات صُمّمت لتكون أكثر من مجرد أدوات. كانت أولى خطواتي مع الإنترنت بسيطة، أشبه بمحاولة طفلٍ لمس شاشة نافذة لأول مرة. لكن شيئاً فشيئاً، تحوّلت الواجهة الرقمية من باب عبور إلى مسرح كامل تتحرّك فيه صورتي، وأعيد فيها تصميم ذاتي. لقد أصبحت الواجهة مرآة ذكية، لا تعكسني كما أنا، بل كما يُراد لي أن أكون.

تطوّر واجهات وسائل التواصل الاجتماعي، من "فيسبوك" في بداياته النصيّة، إلى الانفجار البصري في "إنستغرام" و"تيك توك"، لم يكن مجرد تحول تقني، بل كان إعادة بنية للزمن، للغة، ولعلاقتنا بأنفسنا والآخرين. الواجهة اليوم لا تقف عند حدود التفاعل، بل تسكن الوعي، وتوجّهه.

في كتابه  «The Interface Effect، يتحدث ألكسندر غالووي عن الواجهة كـ"عتبة"، ولكنها في واقع الأمر أصبحت الآن "عقلاً إضافياً"، يُفلتر التجربة ويعيد ترتيبها وفق خوارزميات تستبطن ميول المستخدم وتغذّيها، لتخلق نوعاً من التكرار المتصاعد الذي يُشبه "حلقة الدوبامين" كما وصفها كتاب «The Dopamine Loop: Why We Can’t Log Off».  فكلما مررت بإصبعك على الشاشة، تجد ما تحب، أو ما يثيرك، أو ما يغضبك، لأن هذه هي العملات الجديدة في بورصة الانتباه.

في المغرب، كما في كل مكان، تحوّلت الواجهات إلى واجهات حياة. لم تعد تلك المواقع مجرّد وسائط، بل تحوّلت إلى مشاهد نعيش داخلها. يكفي أن أُغيّر صورة الملف الشخصي، أو أن أشارك فيديو من قلب دربٍ في فاس، أو أن أكتب سطراً شعرياً عن مساء مراكشي، حتى أشعر أنني أُعيد بناء هويتي من جديد، كما لو كنت أنحت جدارية في فضاء عمومي، لكن من خلف شاشة.

ما يثير القلق، هو كيف تُصمَّم هذه الواجهات اليوم لتكون أكثر شفافية في الشكل، وأشدّ تعقيداً في المضمون. واجهات "سناب شات"، على سبيل المثال، تخفي الكثير خلف البساطة. فهي تتيح الفورية، لكنها أيضاً تلغي الأثر، وتختزل الزمن في لحظة تختفي بعد ثوانٍ. هذه الواجهة، في نظري، لا تعكس حميمية، بل نوعاً من "النسيان المبرمج"، وهو ما يُعيدنا إلى فكرة فالتر بنيامين حول «زوال الهالة» في عصر إعادة الإنتاج، حيث تصبح التجربة آنية، وسطحية.

لقد لاحظت، مثلاً، أنني كلما استخدمت "إنستغرام"، أشعر أنني داخل معرض بلا نهاية. الصور المصقولة، المقاطع المعدّلة، والفلاتر التي تحوّل العادي إلى استثنائي، كلّها تشكّل واجهةً زائفة للحياة. الواجهة هنا لا تعبّر عن الواقع، بل تفرض شكلاً من الواقع الذي يجب تقليده. وهذا ما أشار إليه شوشانا زوبوف في كتابها «The Age of Surveillance Capitalism»، حين تحدثت عن كيف أصبحت التكنولوجيا لا تجمع البيانات فقط، بل تُشكّل السلوك أيضاً.

في هذا السياق، لم تعد الواجهة أداة للتعبير فقط، بل أداة للهيمنة الناعمة. من يملك تصميم الواجهة، يملك توجيه السلوك الجماعي. فمثلاً، مكان زرّ الإعجاب، أو لون التنبيهات، ليس اعتباطياً. إنّه مبني على دراسات دقيقة في علم النفس السلوكي. ومن هنا، فإن واجهات التواصل لم تعد مسألة تصميم، بل مسألة سلطة.

أعتقد أننا في حاجة إلى التفكير في "حق الإنسان في الواجهة"، كما نطالب بحقه في الخصوصية. أي أن نعيد التفكير في واجهاتنا الرقمية كمساحات يُفترض أن نحيا فيها بكرامة، لا أن نتجمّل فيها لنُرضي خوارزمية. كيف نُصمم واجهة تعترف بتعقيدنا، بتناقضاتنا، ببطء تفكيرنا؟ كيف يمكن أن نُعيد للتأمل مكانه وسط هذا السيل من التمرير والردود السريعة؟

في النهاية، ما أكتبه الآن هو أيضاً جزء من واجهة. واجهة نص، واجهة فكرة، تحاول أن تُقاوم السطحية ببطء الكلمات، أن تستعيد التفكير من فم الآلة، أن تقول لنا: الواجهة ليست قدراً، بل مشروعاً إنسانياً يمكن إعادة صياغته.

أتمنى أن نعيد للواجهة معناها الإنساني، بعيداً عن التنميط والبرمجة المسبقة. أن تعود النافذة نافذة، لا قفصاً زجاجياً نعيش فيه دون أن ندري أننا نُراقَب ونحن نبتسم.

0 التعليقات: