في 20 مايو 2025، وبدون سابق إنذار، وفي ظل غياب أي إعلان رسمي أو تسريب إعلامي، فُتح ملف استئناف الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام سنسال في محكمة الجزائر. ذلك الكاتب الذي أصبح خلال الأشهر الماضية نقطة خلاف حساسة بين باريس والجزائر، وأحد رموز الأزمة الدبلوماسية المتصاعدة بين البلدين. فبينما كان الجميع ينتظر محاكمته في هدوء، قررت المحكمة تأجيل الجلسة إلى 24 يونيو المقبل، مما أثار دهشة المراقبين والمقربين من الملف على حد سواء.
هذا التأجيل المفاجئ
أعاد إلى الواجهة قضية سنسال، الذي سبق أن حُكم عليه في 27 مارس 2025 بالسجن خمس سنوات
نافذة وغرامة مالية قدرها 500 ألف دينار، في محاكمة جرت في ظروف غامضة، بعيدًا عن أنظار
الإعلام، باستثناء بضعة صحافيين اختيروا بعناية، من بينهم مراسلة لجريدة "الشروق"
المعروفة بتوجهاتها المحافظة. وقد جاء هذا الحكم بعد أن طالبت النيابة بعشر سنوات سجناً
نافذاً.
بوعلام سنسال، الذي
ألقي عليه القبض في 16 نوفمبر 2024، قضى حتى الآن أكثر من ستة أشهر في السجن، دون أن
تلوح في الأفق بوادر انفراج حقيقية. وفي وقت بدأت فيه قضيته تتوارى خلف أزمات أخرى
بين البلدين، يراهن بعض المحللين على إمكانية أن يتم تخفيف الحكم أو إصدار عفو رئاسي
عنه في ذكرى الاستقلال يوم 5 يوليو 2025، أي بعد عشرة أيام فقط من جلسة الاستئناف.
غير أن هذه الفرضية،
رغم ترويج بعض المصادر الجزائرية والفرنسية لها، تبدو بعيدة عن الواقع السياسي الحالي.
فالرئيس عبد المجيد تبون، الذي سبق وأن وصف سنسال بالخائن و"الحركي"، هو
نفسه من أشرف على متابعة القضية منذ بدايتها. وأي خطوة في اتجاه الإفراج عنه قد تُفهم
داخل النظام الجزائري كعلامة ضعف، وتُستغل من قبل خصوم تبون في المؤسسة العسكرية والأمنية
ضده.
علاوة على ذلك، فإن
الأزمة مع فرنسا لم تعد محصورة في قضية سنسال أو حتى في مسألة الصحراء المغربية، التي
استُخدمت في البداية كورقة ضغط لإجبار باريس على النأي بنفسها عن الرباط. بل إن النزاع
تطور ليشمل اتهامات فرنسية صريحة لأجهزة الأمن الجزائرية بتنفيذ عمليات تجسس وابتزاز
واختطاف لمعارضين على الأراضي الفرنسية، وهي قضايا تبناها القضاء الفرنسي عبر النيابة
العامة لمكافحة الإرهاب، مما جعل الجزائر فعليًا في موقع "المتهم" الرسمي.
في خضم هذا التصعيد،
لم يعد بوسع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون – الذي كان يوصف سابقًا بأكثر الرؤساء
الفرنسيين تفهمًا للجزائر – أن يمد يده أو يتدخل للتخفيف من حدة المواجهة، خاصة في
ظل استقلالية القضاء الفرنسي، وخطورة التهم التي طالت دبلوماسيين وضباطًا جزائريين
على خلفية "أنشطة إرهابية" تمس السيادة الفرنسية.
ولم يكن أحد في قصر
المرادية أو الإليزيه يتوقع أن يتصاعد الدور السياسي لوزير الداخلية الفرنسي برونو
روتايو بهذه السرعة، وأن يتحول إلى رأس حربة في سياسة المواجهة مع الجزائر، مستغلاً
قضايا الهجرة، والمهاجرين غير النظاميين، والتأشيرات، والاتفاقيات المجمدة، وقضية المعارضين
الجزائريين في المهجر، لبناء جدار صلب من العداء السياسي والدبلوماسي.
ومع تعدد الملفات العالقة
– من الهجرة والتعاون الأمني، إلى التدخلات الاستخباراتية والشخصيات الجزائرية المطلوب
تسليمها – تلاشت قدرة النظام الجزائري على استخدام ورقة بوعلام سنسال للمساومة. ففرنسا
لم تعد في موقع يمكنها من المقايضة، بل هي تمسك اليوم بمفاتيح الملف القضائي، والنظام
الجزائري يفتقر لأوراق ضغط جدية.
وفي هذا السياق، فإن
أي محاولة لإصدار عفو رئاسي عن سنسال دون مقابل واضح ستُفسر داخليًا كتنازل غير مبرر،
وقد تؤدي إلى هزة عنيفة في توازنات السلطة داخل النظام. فتبون يعلم أن تحركاته باتت
محسوبة بدقة، وأن أي مغامرة سياسية قد تُجهز على مستقبله، خاصة في ظل وجود خصوم له
ينتظرون سقوطه عند أول زلة.
الواقع أن تبون، حين
حاول في مارس الماضي فتح باب المصالحة مع فرنسا، كان قد استشعر أن الأزمة فلتت من يده.
غير أن تعقيد الوضع وظهور لاعبين جدد جعل المبادرة تفشل في مهدها، ولم تعد هناك إمكانية
للعودة إلى الوراء إلا بتغيير شامل في هرم القيادة، سواء في الجزائر أو في فرنسا.
خلاصة القول، إن الإفراج
عن بوعلام سنسال عبر عفو رئاسي لم يعد وارداً في السياق الحالي، لأن أزمته الشخصية
باتت جزءاً صغيراً من شبكة أزمات متشابكة، تتطلب حلولاً جذرية لا تبدو ممكنة في المدى
القريب. أما تبون، فهو محاصر بين الضغوط الخارجية، والانقسامات الداخلية، وقضية سنسال
باتت عبئاً عليه أكثر منها ورقة يمكن اللعب بها. فهل يغامر بتقديم التنازلات، أم سيواصل
المناورة حتى تنقضي ولايته؟ الجواب معلّق حتى إشعار آخر.
0 التعليقات:
إرسال تعليق