الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأحد، مايو 18، 2025

قراءة في كتاب والتر بنيامين(العمل الفني في عصر الاستنساخ الآلي) ترجمة عبده حقي


حين كتب والتر بنيامين مقاله الشهير "العمل الفني في عصر الاستنساخ الآلي" عام 1935، كان يستشرف تحولات جذرية طرأت على مفهوم الفن، ليس فقط على مستوى الشكل، بل على صعيد الوجود الاجتماعي والسياسي للعمل الفني ذاته. في هذا النص المؤسِّس لنقد الحداثة، يضع بنيامين الفن في مواجهة مع التكنولوجيا، ويؤسس لمفهوم "الهالة" (Aura) بوصفه نقطة الانكسار بين ما هو أصيل وما هو مستنسخ، بين المقدس والدنيوي، بين الفن كتجربة فريدة وبين الفن كمنتج صناعي مفرغ من طقسيته وسياقه الأصلي.

من أبرز إسهامات بنيامين في هذا المقال هو تعريفه للهالة باعتبارها ذلك "الظهور الفريد لشيء بعيد، مهما كان قريبًا". الهالة هي البعد الغامض الذي يحيط بالعمل الفني، يجعل منه شيئًا لا يُستهلك بسهولة، متجذرًا في الزمان والمكان. في المقابل، يرى بنيامين أن الاستنساخ الآلي سواء عبر التصوير الفوتوغرافي أو السينما ينزع هذه الهالة، فيفرغ العمل من سحره وسلطته الرمزية، ويحوله إلى شيء مألوف، معمم، و"ديمقراطي".

قد يبدو هذا التحليل للوهلة الأولى رثاءً رومانسيًا لماضٍ غابر، لكن بنيامين لا يكتفي بالبكاء على الأطلال؛ بل يعرض بوضوح أن زوال الهالة ليس مجرد خسارة، بل تحوّل يحمل في طياته إمكانيات سياسية وجمالية جديدة.

قبل الثورة التقنية، كانت الأعمال الفنية مرتبطة بطقس ما، سواء ديني أو أرستقراطي، وهيمنة هذا الطقس كان يمنح الفن قيمته: الأيقونة الدينية، اللوحة المعلقة في قصور النبلاء، التمثال الذي لا يُرى إلا من قبل نخبة معينة. لكن مع قدرة التقنية على استنساخ هذه الأعمال بلا حدود، انزاحت وظيفتها من الطقس إلى «السياسة»، بحسب بنيامين.

وهنا تبرز أطروحته الثورية: السينما، مثلاً، تقدم نموذجًا جديدًا للفن، حيث يُعاد إنتاج الصورة والحدث في كل عرض، وتُقدم إلى جمهور واسع ومتعدد. في هذا الانفتاح يرى بنيامين فرصة لتفعيل إمكانيات الفن في الوعي الجماعي، وفي تشكيل رؤية نقدية للعالم. فالسينما، بعين الكاميرا المتنقلة، لا تكتفي بعرض الواقع، بل تُفككه وتُعيد تركيبه، كما لو أنها تُجري "عملية جراحية" على الزمن والفضاء، في مقابل "الطلاء السطحي" الذي يميز الرسم الكلاسيكي.

لكن مقال بنيامين لا يخلو من التحذير؛ إذ كتبه في ظل تصاعد الفاشية في أوروبا، ويُحذر فيه من أن تُستخدم الوسائل التقنية في «"جَمالية السياسة"«، أي تحويل السياسة إلى عرض مسرحي وشعبي يُثير العاطفة بدل العقل، كما فعل النظام النازي. ولذلك يميز بنيامين بين وظيفتين متناقضتين للفن المستنسخ: واحدة تحررية، تُستخدم لتوعية الجماهير، وأخرى قمعية تُسخّر لتخديرهم.

ما يثير الإعجاب في نص بنيامين هو قدرته على تجاوز الثنائيات السطحية: فهو لا يحتفي بالتكنولوجيا من دون قيد، ولا يرفضها برومانسية محافظة. بل يقيم علاقة جدلية بين "الأصالة" و"التكرار"، ويُظهر كيف أن فقدان الهالة، وإن كان يعني سقوط الهيبة القديمة، يفتح الباب أمام انعتاق الفن من أسر النخبة والاحتكار.

لقد فتح هذا المقال الباب أمام دراسات لاحقة في مجالات عديدة: من الإعلام البصري إلى النقد الثقافي، من الفوتوغرافيا إلى الأدب الرقمي، بل أصبح من النصوص التأسيسية في نظرية ما بعد الحداثة. فالفكرة التي طرحها بنيامين حول التكرار الآلي تحاكي اليوم جدليات الذكاء الاصطناعي في الفن، وإنتاج الصور، والنصوص، والموسيقى، حيث تطرح الأسئلة نفسها: من يملك الأصالة؟ هل هناك أصالة أصلاً؟ وهل فقدت الأعمال الفنية معناها في زمن اللازمن الرقمي؟

يُعد مقال والتر بنيامين أكثر من نص فلسفي أو نقدي؛ إنه لحظة تأمل في التحولات العميقة التي أصابت علاقة الإنسان بالصورة، وبالزمن، وبالمكان. وبقدر ما يرصد زوال "الهالة"، فإنه يدعونا للتفكير في كيف يمكن للفن أن يظل حيًّا، فاعلاً، ومؤثرًا، حتى حين يتكرر آلاف المرات.

في عصر منصات التواصل، حيث تُستنسخ الصور وتُعاد مشاركتها بلا نهاية، يبدو أن نبوءة بنيامين قد اكتملت. لكن يبقى السؤال: هل ماتت الهالة تمامًا؟ أم أنها فقط انتقلت من المعابد إلى الشاشات، ومن الطقس إلى الخوارزمية؟


0 التعليقات: