لم أعد أستطيع، كقارئ مغربي ينتمي إلى فضاء الجنوب العالمي، أن أواكب ما يُنشر من تقارير وتحقيقات وتحليلات عميقة إلا عبر نوافذ نصف مغلقة أو شاشات تطلب مني بطاقة ائتمان قبل أن تسمح لي بالدخول. لقد كانت الصحافة ذات يوم فناً مشاعاً، وحرفة تلامس الناس حيث هم، في أسواقهم، في مقاهيهم، في بيوت الطين والعمارات الزجاجية معاً. أما اليوم، فقد تحوّلت إلى غرفة مغلقة لا يُفتح بابها إلا بكلمة سر مدفوعة.
تُحاصرني نماذج الاشتراك
مثل (Paywalls) من كل حدب وصوب.
صحيفة «لوموند» لا تسمح لي سوى بعين خاطفة. «نيويورك
تايمز»
تعيدني دوماً إلى الصفحة
ذاتها: “اشترك الآن مقابل دولار واحد فقط في الشهر!”، لكني أعلم أن الدولار الواحد
سيتحول إلى عشرة ثم عشرين، وأن الفارق بيني وبين القارئ الأوروبي أو الأمريكي لن يكون
فقط في الجغرافيا، بل في قدرة الولوج إلى المعلومة نفسها.
أدرك أن الصحف، مثل
غيرها من الكيانات الاقتصادية، تحتاج إلى مصادر تمويل. لكني أتساءل باستمرار: هل العدالة
المعرفية أقل أهمية من الاستدامة المالية؟ وهل يمكن بناء ديمقراطية إعلامية إذا كانت
المعلومات النوعية محصورة في يد من يملك اشتراكاً؟ دراسة نشرتها «معهد
رويترز لدراسة الصحافة» سنة
2023 أوضحت أن أكثر من 76% من المواقع الإخبارية الكبرى في أوروبا وأمريكا الشمالية
تطبق شكلاً من أشكال الجدار المدفوع، وأن فجوة المعرفة بين القادرين وغير القادرين
على الدفع تتسع بشكل يهدد حتى مبادئ الشفافية والمساءلة.
إن الأزمة هنا ليست
فقط تقنية أو اقتصادية، بل أخلاقية بالدرجة الأولى. كيف يمكن للصحافة، وهي التي نادت
منذ قرن بالحقيقة كحق عام، أن تُحوِّل تقارير التحقيق في الفساد، وتغطيات الكوارث الإنسانية،
وتحليلات الاقتصاد العالمي، إلى سلعة تُباع لمن يدفع أكثر؟ هل نسينا أن الديمقراطيات
لا تتنفس فقط عبر صناديق الاقتراع، بل عبر اطلاع مواطنيها على ما يجري في العلن والسر؟
بوصفي كاتبًا من المغرب،
كثيرًا ما أجد نفسي مضطراً إلى الاعتماد على ملخصات أو محتوى ثانوي، فقط لأن الأصل
محجوب خلف جدار مدفوع. فهل يُعقل أن يتحوّل صحافي في طنجة أو باحث في أكادير إلى قارئ
من الدرجة الثانية، فقط لأنه لا يستطيع الاشتراك في «الإيكونوميست» أو «قضايا
خارجية»؟ إن ما
نشهده اليوم هو نسخة معولمة من "التمييز الطبقي المعرفي"، حيث يصبح الوصول
إلى الخبر الموثوق امتيازاً، لا حقاً.
لقد حاولت بعض المبادرات
الرقمية، مثل منصة «Project
Syndicate» أو «The Conversation»، أن تفتح باباً ثالثاً، يوازن بين الاستدامة
المالية والإتاحة المعرفية. لكنها لا تزال محدودة التأثير. وعلى المستوى العربي، تبدو
المبادرات أكثر هشاشة. فالصحف الرقمية العربية الكبرى، حتى تلك التي تُموّل من دول
نفطية، بدأت تتجه هي الأخرى إلى نماذج الاشتراك، تحت ذريعة الجودة والاستقلال.
في هذا السياق، تبرز
الحاجة إلى تصوّر جديد لعلاقة الصحافة بالتمويل. فربما يكون الحل في نماذج هجينة، تُراعي
الواقع الاقتصادي دون التضحية بالحق في المعرفة. كأن تُمَوّل الصحافة العمومية النوعية
من الضرائب
(كما هو حال «بي بي سي» أو
«France
Télévisions»)،
أو أن تتبنّى مؤسسات المجتمع المدني فكرة دعم التحقيقات الصحفية الكبرى، مع ضمان بقاءها
متاحة للجميع. حتى الذكاء الاصطناعي، رغم تهديداته، قد يُستثمر لتقليص كلفة الإنتاج
لا لرفع سعر الدخول.
إنني لا أنادي بعالم
خالٍ من الاشتراكات. لكني أصر، من موقعي ككاتب مغربي، على أن الخبر ليس ترفاً، بل حاجة
وجودية في زمن تتناسل فيه الأخبار الزائفة والتضليل المنهجي. لا يمكننا أن نواجه الانحراف
الإعلامي بجدران مغلقة، بل بجسور مفتوحة تربط بين الصحافي والقارئ، بين المعلومة والمسؤولية.
لقد كان الشاعر الفرنسي
«بول فاليري» يقول: "كل ما لا يُفهم يُعبد". ونحن اليوم أمام خطر أن نعود
إلى زمن الأوهام، لا لأن الحقيقة غائبة، بل لأنها محجوبة بثمن. ومتى صار الخبر سلعة
نادرة، فقد المواطن بوصلة الفهم، وسقطت الصحافة من علياء رسالتها إلى قاع السوق.
وأخشى أن يُكتب على
جيلنا أننا كنا أول من اخترع العالم الرقمي، لكننا جعلنا المعرفة الرقمية حكراً على
من يملك البطاقة البنكية.
0 التعليقات:
إرسال تعليق