في زمن تزداد فيه الحاجة إلى الشفافية وتتصاعد فيه المخاوف من استغلال أجهزة الدولة لأغراض تصفية المعارضين، تخرج إلى العلن تحقيقات صحفية خطيرة تضع السلطات الجزائرية في مواجهة محرجة مع ضميرها الوطني والدولي. الصحيفة الفرنسية "لو جورنال دو ديمانش"، المشهورة برصانتها، أعلنت عن تحقيق استقصائي يتضمن معلومات صادمة عن تورط مسؤولين جزائريين كبار في عمليات اختطاف واعتداء جسدي ضد معارضين سياسيين جزائريين مقيمين في أوروبا، وخاصة في فرنسا.
التحقيق الذي أعدّه
الصحافي محمد سيفاوي، يورد تفاصيل دقيقة مسندة بأدلة تقنية، عن تحركات مشبوهة، لقاءات
سرية، وتحويلات مالية تمت من داخل الأراضي الجزائرية لتمويل هذه العمليات الإجرامية،
والتي يُقال إنها استهدفت معارضين بارزين من أمثال أ.س. و أ.م.د.ز. ليس ذلك فحسب، بل
تشير المعطيات إلى أن بعض منفذي هذه الاعتداءات دخلوا وخرجوا من الجزائر في توقيتات
دقيقة تزامنت مع تنفيذ العمليات، ما يطرح تساؤلات خطيرة حول طبيعة الجهات التي وفّرت
لهم الغطاء، سواء من أجهزة الأمن أو من شخصيات ذات نفوذ داخل النظام.
لكن الأخطر من مضمون
التحقيق، هو صمت السلطات الجزائرية. فلا تكذيب رسمي، ولا فتح تحقيق داخلي، ولا حتى
بيان مقتضب يوضح موقف الدولة من هذه التهم المدوية. في المقابل، لا نجد إلا حملة ممنهجة
من التخوين، والاتهامات الجاهزة بالعمالة أو "الصهيونية الإعلامية"، وهو
خطاب مألوف يفضّل تشويه الرُسل على مواجهة الرسائل.
كيف لدولة ذات سيادة،
حين تُتهم على هذا النحو الصريح والخطير، أن تلوذ بالصمت؟ إن حماية سمعة الدولة لا
تكون بالسبّ والشتم، بل بتقديم الحقائق، والرد بالحجج، وفتح المجال للقضاء للتحقيق.
إن الصحافة الاستقصائية ليست محكمة، لكنها تُنير الطريق نحو الحقيقة. والحقائق لا تُسكت
بالصراخ، بل تُفنَّد بالدليل.
إن المثير في هذه القضية،
أن بعض المتورطين، حسب التحقيق، يحملون جنسية مزدوجة جزائرية-فرنسية، وأن الاعتداءات
تمت على الأراضي الأوروبية، وهو ما ينذر بتدويل القضية، وربما بتحريك مذكرات توقيف
دولية في حال ثبوت التورط الرسمي. وهنا يبرز سؤال وجودي للدولة الجزائرية: هل ستختار
المواجهة القانونية الشفافة، أم ستغرق أكثر في مستنقع الإنكار والاتهام؟
ألا يستحق الشعب الجزائري،
وهو الذي دفع ثمناً باهظاً في تاريخه من أجل الاستقلال والكرامة، أن يعرف الحقيقة؟
ألا يحق للمواطنين أن يطمئنوا إلى أن دولتهم لا تمارس الإرهاب خارج الحدود؟ ألا يستحق
الصحفيون والمعارضون أن يُعاملوا كمواطنين لا كأعداء يُطاردون ويُعتدى عليهم لمجرد
أنهم عبّروا عن رأي مخالف؟
الجزائر، كوطن، أكبر
من أي جهاز، وأسمى من أي ضابط أو مسؤول. ومن الخطأ الفادح أن تُربط صورة البلد بتصرفات
أقلية مستعدة لدهس القوانين والأخلاق من أجل حماية مصالحها أو كتم أصوات معارضيها.
إنّ من ينتمون بحق إلى هذا الوطن، داخل النظام أو خارجه، يجب أن يرفضوا هذه الممارسات
التي تسيء لبلدهم في المحافل الدولية وتُظهره كدولة مارقة.
الأجدر بالسلطات الجزائرية،
إن كانت واثقة من براءتها، أن تطلب من النيابة العامة فتح تحقيق رسمي بالتعاون مع السلطات
الفرنسية، وأن تستدعي المتهمين للتحقيق، وأن تعلن
للرأي العام نتائج
هذه المساءلة. أما أن تلوذ بالصمت، ثم تطلق أبواقها الإعلامية لتوزيع الاتهامات ووصم
كل صحفي أو معارض بالخيانة، فهو مسلك لا يليق بدولة تحترم نفسها.
إن التاريخ لا يرحم،
والذاكرة الجمعية للشعوب لا تُمسح بسهولة. وقد أثبتت التجارب أن من لا يحاسب نفسه،
سيُحاسب حتماً في ساحات أوسع، وربما أمام محاكم لا ترحم. لهذا فإن المسؤولية اليوم
ثقيلة، لكن المسار واضح: قول الحقيقة مهما كانت مرّة، أو مواصلة الغرق في أكاذيب قد
تتحول إلى وصمة لا تُمحى.
إن الجزائر بحاجة ماسة
إلى مواجهة هذا الامتحان الأخلاقي والتاريخي بشجاعة، وإلى قطع الطريق أمام كل من يظن
أن الوطنية تُبنى على دم المعارضين، أو أن هيبة الدولة تعني إرهاب الأصوات الحرة. فالحرية
هي ما يصنع الأوطان، أما الخوف، فهو ما يصنع الديكتاتوريات.
0 التعليقات:
إرسال تعليق