في خطابه بمناسبة الذكرى السادسة والعشرين لعيد العرش، وجّه الملك محمد السادس دعوة صريحة ومباشرة إلى الجزائر، دعا فيها إلى تجاوز التوترات والخلافات التاريخية، وإرساء حوار صادق ومسؤول يضع حداً لحالة الاحتقان والجمود الدبلوماسي بين البلدين. دعوة لم تأتِ من فراغ، بل من إدراك عميق بأن استمرار القطيعة لا يخدم أحداً، لا المغرب ولا الجزائر، ولا مستقبل المنطقة المغاربية برمتها.
الملك، في خطابه الذي
أعادته كبريات وسائل الإعلام الدولية، دعا إلى حوار "أخوي وصريح ومسؤول"،
يعالج الخلافات المزمنة بين البلدين. وعبّر عن استعداد المغرب للجلوس إلى طاولة التفاوض
لإيجاد "حل توافقي لا غالب فيه ولا مغلوب"، صيغة تحاول أن تضع كرامة كل طرف
في الحسبان، بعيداً عن منطق الغلبة والانكسار.
لكن، ويا للأسف، قوبلت
هذه اليد الممدودة إلى الشرق بموجة من التهكم والرفض في أوساط الإعلام الرسمي وشبه
الرسمي الجزائري، حيث تم التشكيك في نوايا الرباط، ووصفت المبادرة بأنها مجرد
"مناورة دعائية". ووسط صمت رسمي مطبق من المسؤولين الجزائريين، برز صوت إعلامي
عدائي، يواصل العزف على وتر المؤامرة والتهديدات الوجودية.
غير أن هذا التصلب
في المواقف التي لاتزال تقتات على مخلفات الخرب الباردة يثير أكثر من علامة استفهام:
إلى متى ستظل الجزائر تُصِر على رؤية في كل مبادرة مغربية فخاً خفياً؟ إلى متى ستبقى
حبيسة خطاب يصور الجار المغربي على أنه العدو الأزلي؟
من المؤكد
إتاريخيا ن العلاقات الجزائرية-المغربية لم تولد متوترة. لكن منذ سبعينيات القرن الماضي،
وبالذات مع اندلاع نزاع الصحراء، دخلت في نفق مظلم لم تخرج منه حتى الآن. لقد تفجّرت
الأزمة على نحو أكثر حدة في 2021 بقطع العلاقات الدبلوماسية، لتدخل مرحلة من التصعيد
الجيوسياسي والإعلامي لا تبشّر بخير.
هل يمكن تصور حرب فعلية
بين الجارتين؟ الجواب، منطقياً واستراتيجياً، هو لا. فكل من المغرب والجزائر يدركان
جيداً، وفق منطق العصر، أن الحرب ليست خياراً أخيرا وناجعا. من الحرب الأوكرانية إلى
أزمات الشرق الأوسط، تُثبت الوقائع أن لا أحد يربح من اللجوء إلى السلاح. إنها لعبة
خاسرة للطرفين، قد تنتهي بانهيار الشعوب والدول.
إذاً، لماذا لا تفتح
قنوات الحوار؟ لماذا لا تجرب الجزائر، بكل ما أوتيت من دبلوماسية، أن تدخل في مفاوضات
شجاعة ومباشرة مع المغرب؟ وإن كانت تشكك في نوايا الرباط، فلتختبرها مباشرة، وليس عبر
المنابر الإعلامية. فالرفض الدائم للحوار لا يُقنع أحداً، لا في الداخل ولا في الخارج.
بل إن المجتمع الدولي، حين يرى طرفاً يدعو للحوار وآخر يرفضه، سيحسم موقفه دون تردد لصاح
الطرف المساند للحوار.
الجزائر، وهي الدولة
التي كثيراً ما ترفع لواء السلام في لبنان والسودان وفلسطين، مطالبة بأن تبدأ أولاً
بمصالحة محيطها المغاربي. فمن غير المنطقي أن تتصدر المبادرات الأممية وتغيب عن طاولة
المصالحة مع جارتها الأقرب.
ولعلّ ما يدعو إلى
التأمل أكثر هو أن الدول الكبرى نفسها تفاوض أعداءها. فبين إيران والسعودية، رغم كل
ما يفصل بينهما، قد وقعتا اتفاقات سلام. الولايات المتحدة تفاوضت مع كوريا الشمالية.
بل إن "حماس" تفاوضت مع إسرائيل. إذًا، ما المانع من تفاوض جزائري-مغربي
مباشر، تحت رعاية عربية أو إفريقية أو أممية، لبحث الملفات العالقة من قضية الصحراء
إلى المخاوف الأمنية والقضايا الحدودية؟
لقد اعترفت قوى عالمية
وازنة، كأمريكا وفرنسا وبريطانيا، بخطة الحكم الذاتي المغربية كحل واقعي ومتوازن لقضية
الصحراء. إن إصرار الجزائر على خيار الانفصال، في وقت يعاني فيه الإقليم من انقسامات
وفوضى، يبدو وكأنه ترف دبلوماسي في غير أوانه. بل إنه خيار غير قابل للتطبيق الجيوسياسي
في عالم تتغير خرائطه وتتحالف قواه على حساب الأوهام.
ما الذي يمكن للجزائر
أن تخسره إن تفاوضت؟ لا شيء، بل قد تربح كثيراً: استقرار الجوار، تخفيف التوترات العسكرية،
تعاون اقتصادي محتمل، وانفتاح جديد نحو إفريقيا وأوروبا عبر بوابة الجارة المغرب. أما
مواصلة الشيطنة والتجاهل، فهي سياسة عقيمة لن تجلب سوى المزيد من التوتر الداخلي والخارجي.
ختاماً، ليس في الحوار
خنوع، ولا في التسوية خيانة، ولا في مساومة
هزيمة. إنها أدوات العقلاء في عالم تُكتب فيه الانتصارات بالحكمة، لا بالصواريخ. وكما
قال الملك محمد السادس: "لا غالب ولا مغلوب"، بل جيران شاءت الجغرافيا أن
يتقاسما التاريخ والمستقبل.
0 التعليقات:
إرسال تعليق