منذ أن بدأت الطائرات المسيّرة (الدرونز) تغزو سماء الحروب، ثم تحلق في مهرجانات السينما، وصولاً إلى الحقول الزراعية، لم يتأخر دخولها إلى ميدان الإعلام. في كتابه "Drones and Journalism"، يفتح لنا الباحث والصحفي الكندي «مارك تريمبلاي» نافذة على هذا التحول التكنولوجي اللافت، كاشفاً ليس فقط عن إمكانات الدرونز في تغطية الأحداث، بل أيضاً عن التحديات الأخلاقية والقانونية التي تفرضها على الصحافة المعاصرة.
يعتمد تريمبلاي في
طرحه على مقاربة متعددة الأبعاد تمزج بين التكنولوجيا والإعلام، مبرزاً كيف غيّرت الدرونز
مفهوم "عين الصحفي" و"موقع الحدث". لم تعد الصحافة مقيدة بالأرض،
بل أصبحت تطل من علٍ، ما أتاح آفاقاً غير مسبوقة في التصوير والتحقيق والمتابعة. إلا
أن المؤلف لا يسقط في فخ التبشير التكنولوجي، بل يوازن بين الأمل والمخاوف، بين الدقة
والمراقبة، بين التوثيق والاقتحام.
في الفصل الأول، يستعرض
الكاتب التطورات التقنية التي مهدت لاستخدام الدرونز في الإعلام، مشيراً إلى التحول
من أدوات عسكرية بحتة إلى أدوات مدنية ثم إعلامية. ويستشهد بتجارب مبكرة مثل تغطية
إعصار "كاترينا" في الولايات المتحدة، أو استخدام الصحفيين المستقلين للدرونز
في مناطق النزاع كأوكرانيا وسوريا.
من أبرز مزايا الدرونز
في العمل الصحفي، بحسب تريمبلاي، أنها توفر إمكانات غير تقليدية في التغطية، خصوصاً
في المناطق الوعرة أو المحظورة، أو أثناء الكوارث الطبيعية التي تصعب فيها الحركة الأرضية.
يستحضر المؤلف تغطية حرائق الغابات في كاليفورنيا، وفيضانات باكستان، والحروب الحضرية
في الموصل وحلب، موضحاً كيف أتاحت الصور الجوية روايةً بصرية أقوى من الكلمات، وأكثر
أماناً للصحفيين.
إلا أن تريمبلاي لا
يغفل المخاطر، إذ يشير إلى حالات تم فيها إطلاق النار على الدرونز، أو تم تعطيلها إلكترونياً.
كما يطرح سؤالاً أساسياً: هل الصور الجوية قادرة فعلاً على إيصال "الحقيقة"؟
أم أنها تساهم في خلق "مسافة عاطفية" بين الجمهور والحدث، كما يرى بعض نقاد
الإعلام البصري؟
يمثل الفصل الرابع
من الكتاب أحد أهم محاوره، حيث يغوص الكاتب في أعماق النقاش الأخلاقي والقانوني. يشير
إلى أن العديد من الدول، حتى المتقدمة منها، لم تضع بعد أطرًا قانونية واضحة لتنظيم
استخدام الدرونز في الصحافة، مما يفتح الباب أمام ممارسات قد تخرق الخصوصية، أو تنتهك
حرمة الأماكن، أو تهدد السلامة العامة.
يروي تريمبلاي حادثة
شهيرة وقعت في فرنسا عام 2017، حيث التقطت إحدى الدرونز صوراً خاصة لعائلة سياسية بارزة
من دون إذن، مما أثار جدلاً واسعاً حول الحدود بين "الحق في الإعلام" و"الحق
في الخصوصية". ويقترح المؤلف ضرورة تأسيس "ميثاق أخلاقي خاص بالدرونز الصحفية"،
يُكمل مواثيق الصحافة التقليدية.
جانب آخر يلفت الانتباه
في الكتاب هو تناوله لتأثير الدرونز على مفهوم "الصحفي المواطن". ففي زمن
وسائل التواصل الاجتماعي، أصبح بإمكان أي فرد يمتلك دروناً وكاميرا أن يوثّق الحدث
ويشاركه، بل ويبيعه للمنصات الكبرى. يناقش تريمبلاي هنا تداخل الأدوار بين المحترف
والهاوي، وكيف غيّرت التكنولوجيا ملامح المهنة، بل وحتى حدود السلطة الصحفية نفسها.
كما يستحضر الكاتب
حالات استخدم فيها النشطاء درونز لكشف الانتهاكات البيئية أو التجاوزات الأمنية، ما
يعزز دور الإعلام البديل، لكنه يطرح أيضاً إشكالية التحقق والمصداقية. هل كل ما تلتقطه
الدرونز هو خبر؟ أم يجب إخضاعه لمعايير النشر والتحقق كما في الصحافة التقليدية؟
في خاتمة الكتاب، لا
يقدم مارك تريمبلاي وصفة جاهزة لمستقبل الصحافة مع الدرونز، بل يترك الباب مفتوحاً
للتفكير النقدي. يعتبر أن هذه الطائرات الصغيرة قد تكون حليفاً للصحفي، ولكنها قد تصبح
أيضاً وسيلة لتسليع الخبر وتبخيسه إذا لم تُضبط ضوابطها.
ويشبه الكاتب الدرونز
بــ"مرآة محلّقة" تعكس الواقع من فوق، لكنها لا تملك بحد ذاتها معنىً أو
سياقاً. المعنى يصنعه الصحفي، والخلفية تضفيها القيم التحريرية. وهنا يكمن جوهر التحدي:
كيف نعيد تعريف الصحافة في عصر تُكتب فيه الروايات من السماء؟
يُحسب لمارك تريمبلاي
أنه لا يكتفي بالعرض التقني أو التأريخ الصحفي، بل يغوص في عمق الأسئلة الأخلاقية والمعرفية
التي تثيرها التكنولوجيا. أسلوبه واضح، مدعوم بأمثلة ميدانية حية، ومراجع أكاديمية
معتبرة مثل تقارير "هيومان رايتس ووتش" و"مركز الصحافة الرقمية".
ومع ذلك، ربما يُؤخذ على الكتاب تركيزه الكبير على تجارب أمريكا الشمالية وأوروبا،
مقابل غياب شبه تام لأمثلة من الجنوب العالمي أو دول العالم العربي، التي قد توفر منظوراً
مختلفاً تماماً في ظل غياب الأطر التنظيمية.
0 التعليقات:
إرسال تعليق