الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الاثنين، مايو 26، 2025

اليوتوبر والصحفي: حدود المهنة في زمن المنصات: عبده حقي


في زمن التحولات الرقمية السريعة، بات من الضروري مساءلة المفاهيم الكلاسيكية التي ضبطت الممارسة الإعلامية لعدة قرون. ولعل أبرز هذه الأسئلة اليوم: هل يُعدّ الصحفي اليوتوبر صحافياً؟ وكيف تتعامل المنظمات المهنية والقوانين الوطنية مع هذا النمط الجديد من صانعي المحتوى؟ وما موقع منصة يوتيوب في المنظومة القانونية الإعلامية، وطنياً ودولياً؟ ثم هل يمكن للصحفي المغربي الجمع بين القلم والكاميرا دون أن يُتهم بازدواجية مهنية أو تفريط أخلاقي؟

لقد أنتجت الثورة الرقمية ما يُعرف بـ"الصحافة المواطنة"، حيث صار بإمكان أي شخص أن يصور، يعلّق، وينشر. وبقدر ما ساهم هذا التوجه في كسر احتكار المعلومة، بقدر ما أربك معايير التمييز بين الصحفي المحترف والصحفي الهاوي أو الناشط الرقمي. فالصحافي، وفق التعريف التقليدي، هو من يُنتج محتوى إخباريًا وفق قواعد التحرير المعروفة، ويخضع لمساءلة أخلاقية وقانونية، ويشتغل غالباً في إطار مؤسسة صحافية منظمة.

أما المواطن اليوتوبر، فهو غالباً فرد مستقل، يشتغل خارج الضوابط المهنية المعروفة، وقد يجنح إلى الإثارة، التعميم، أو حتى التضليل، إما بقصد الربح أو طلب الشهرة. وهنا تكمن المشكلة: هل نمنحه صفة الصحفي فقط لأنه يقدم "معلومة" عبر منصة رقمية؟ أم أن للمهنة أخلاقياتها التي لا تُختزل في "التوصيل"، بل تتجذر في المعالجة، التحقق، والتوازن؟

ترفض كبريات المنظمات الصحفية العالمية كـ"الاتحاد الدولي للصحفيين" و"منظمة مراسلون بلا حدود" الخلط المطلق بين صانع المحتوى الصحفي وصانع المحتوى الرقمي. ففي تقرير صادر عن "مراسلون بلا حدود" عام 2023، أكدت المنظمة أن «الصحافة مهنة تُمارَس وفق معايير، وليست نشاطاً حراً يخضع لأهواء المنصات.» كما شددت على ضرورة إخضاع اليوتيوبرز، في حال ممارستهم الصحافة الفعلية، لنفس القواعد القانونية والأخلاقية التي يُحاسب بها الصحفيون المعتمدون.

ومع ذلك، لا تُقصي هذه المنظمات مساهمة بعض اليوتيوبرز في الكشف عن قضايا مهمة، أو إيصال صوت الفئات المهمشة، لكنها تحذر من إضفاء صفة "الصحفي" على من لا يخضع للتدريب، ولا يتحمل المسؤولية التحريرية أو القانونية.

في الدول الغربية، كفرنسا والولايات المتحدة وألمانيا، لا يُعتبر اليوتوبر صحافياً إلا إذا كان يمارس "التحقيق الصحفي" وفق الضوابط المهنية. فالقانون الفرنسي، مثلاً، يميز بوضوح بين "الصحفي المهني" و"صانع المحتوى"، ويمنح الأول حماية قانونية خاصة (حق السرية، الحصانة، بطاقة الصحفي)، بينما يُعامل الثاني كمواطن عادي خاضع لقوانين النشر العامة.

أما في دول الجنوب، فالصورة أكثر غموضاً. ففي المغرب وتونس ومصر، لم تواكب التشريعات الوطنية بعدُ هذا التحول الرقمي بالكامل. في المغرب، مثلاً، يُخضع القانون 88.13 المتعلق بالصحافة والنشر صفة "الصحفي المهني" لشروط صارمة: منها التوفر على بطاقة الصحافة المهنية، والاشتغال داخل مؤسسة صحفية مرخصة. وبالتالي، فإن المواطن اليوتوبر، مهما بلغ تأثيره، لا يُعتبر قانونياً صحافياً، ولا يُستفيد من الحماية القانونية التي تُمنح لممارسي المهنة المعتمدين.

من الناحية القانونية، لا تُعتبر منصة يوتيوب "منشأة صحافية" وفق التعريف المعتمد في القوانين المغربية أو الدولية. فهي منصة بث رقمي تتيح للمستخدمين رفع الفيديوهات، لكنها لا تملك خطاً تحريرياً واضحاً، ولا تتحمل مسؤولية مباشرة عن المحتوى المنشور، إلا في حالات التحريض أو مخالفة السياسات العامة.

ومع ذلك، لا يُعفي هذا الوضع بعض المستخدمين المؤثرين من المسؤولية، خاصة إذا تحولوا إلى مصدر للمعلومة أو تبنّوا خطاً تحريرياً مكرراً. ففي هذه الحالة، قد تُعاملهم السلطات القضائية كـ"فاعلين إعلاميين" غير مرخصين، ما يعرضهم للمتابعة تحت قوانين الصحافة أو حتى قوانين الجريمة الإلكترونية.

رغم هذه الفجوات القانونية، يحق للصحفي المغربي الجمع بين الكتابة الصحفية والنشر عبر اليوتيوب، شريطة احترام الضوابط المهنية والأخلاقية. فليس هناك ما يمنع من أن يدوّن الصحفي مقالاته في جريدة أو موقع إلكتروني، ويحولها إلى فيديوهات تحليلية أو تحقيقات مصورة.

بل إن بعض الصحفيين المرموقين في المغرب بدأوا يستثمرون هذه الوسائط المتعددة لتوسيع نطاق التأثير، مستفيدين من الإمكانيات التفاعلية التي تتيحها الفيديوهات. المهم أن يظل هذا الانتقال مرجِعاً للضوابط المهنية، لا قفزة نحو التهافت أو الإثارة.

في النهاية، يظل الفرق بين اليوتوبر والصحفي مهنياً وأخلاقياً بالدرجة الأولى، لا تقنياً. فليس كل من رفع كاميرا صار صحفياً، كما أن الصحفي ليس حكراً على المؤسسة، ما دام يلتزم القواعد وينتج محتوى نافعاً وموثقاً. لكن يبقى ضرورياً أن تتحرك التشريعات الوطنية والمنظمات الصحفية بسرعة أكبر، لسد الثغرات القانونية، وضمان الحق في التعبير من جهة، وحماية المجتمع من الأخبار الكاذبة والتضليل من جهة أخرى. فبين كاميرا المواطن وقلم الصحفي، تظل الحقيقة وحدها معيار الشرعية.

0 التعليقات: