حين سمعت وقرأت خبر قرار إدارة ترامب بحرمان جامعة هارفارد من حق استقطاب طلبة العالم، شعرت وكأنَّ الجغرافيا قد تقلصت فجأة لتُحاصرنا جميعًا في خندق واحد: خندق الممنوعين من الحلم.
هارفارد، هذا الاسم الذي طالما مثّل لي ـ ولآلاف الطامحين من أبناء بلدي والعالم ـ بوابةً نحو الفكر الحر والانفتاح الكوني، تحوّلت فجأة إلى ساحة نزاع سياسي أعمى، تُستخدم فيها القوانين كالسيوف وتُوظّف فيها مفردات "الأمن القومي" لمحاكمة الفكر والعلم.
قرار وزارة الأمن الداخلي
الأميركية، الموقع من قبل الوزيرة كريستي نويم، لم يكن مجرد إلغاء إداري. لقد كان بمثابة
إعلان حالة طوارئ ثقافية، استهدفت ليس فقط المؤسسة الأكاديمية بل كل طالب أجنبي يحمل
بين دفتي جوازه شغفًا بالمعرفة ورغبة في الإسهام في مستقبل عالمي مشترك.
أن تكون طالبًا مغربيًا
وتحلم بالدراسة في هارفارد أو في أي جامعة أميركية، أصبح اليوم معادلاً للحلم بالمنفى.
فهؤلاء الذين حصلوا على تأشيرات F-1 أو J-1 وجدوا أنفسهم فجأة أمام خيارين: الترحيل أو
التنقل القسري إلى جامعات أخرى. وكأنك لاجئ طالب تُطاردك الشكوك وتُحاصر مستقبلك مجرد
شبهة أو إجراء بيروقراطي.
الوزارة علّلت قرارها
بما وصفته "فشل الجامعة في الامتثال لمتطلبات تقارير بسيطة". لكن الحقيقة
أن القرار مشحون بخطاب أيديولوجي يُحمِّل هارفارد تهمًا تتراوح بين "اللاسامية"
و"التحريض على العنف" و"التعاون مع الحزب الشيوعي الصيني"، وهي
اتهامات يرفضها المنطق السليم قبل القانون.
وقد عبّر رئيس الجامعة،
آلان غاربر، عن رفضه الصريح لهذا الانتهاك لسيادة الجامعات، مؤكدًا أن الحكومة الأميركية
تجاوزت حدود سلطتها بموجب الدستور، وأنها تحاول "فرض وصاية فكرية على ما يجب تدريسه،
ومن يجب استقباله، وماذا يجب أن يُناقَش داخل أسوار المعرفة".
ما يشهده التعليم العالي
الأميركي اليوم ليس نزاعًا حول "التقارير الإدارية"، بل هو فصل جديد من صراع
أوسع بين عقل سلطوي يريد تأميم الفكر، وجامعات ترفض الخضوع لمنطق الشعارات القومية
المتطرفة.
ليست هارفارد وحدها
المتضررة، بل هي الواجهة فقط. وراءها يقف 6,800 طالب أجنبي من 140 دولة، ومن بينهم
ربما مغربي أو مغربية حلموا بأن يكونوا ضمن تلك النخبة التي تُشكل المستقبل العالمي،
لا بصفتها طبقة، بل بصفتها مسؤولية.
أستاذة العلوم السياسية
في كلية كينيدي، بيبا نوريس، اختزلت الكارثة حين قالت إن القرار "يقطع شريان المعرفة
الدولية عن الطلاب الأميركيين ويضعف القوة الناعمة لأميركا". وكأن الولايات المتحدة
لم تعد تبني قوتها بنفوذ الثقافة، بل بعزلتها.
من جهتي، كمغربي يؤمن
بأن المعرفة لا تعرف حدودًا ولا جنسيات، أرى أن هذه القرارات تعني شيئًا أكبر من مجرد
جامعة: إنها إعلان عن انكماش عالمي، عن انكفاء أمةٍ على ذاتها باسم الخوف، وتحويل الجامعات
إلى ساحات أيديولوجية لا تختلف عن قاعات المحاكم أو مؤتمرات الحزب.
الأمر لن يتوقف عند
الطلاب. إنه يبعث برسالة إلى كل المفكرين والباحثين: "أميركا لم تعد حاضنة للأفكار،
بل شرطيًا يقيس الإبداع بمدى ولائه". وإنه، كما علّق أحد الطلاب الدوليين،
"أكثر اللحظات مأساوية في حياتنا الأكاديمية"، لأن الحلم لا يُلغى بقرار
رسمي إلا حين تكون السياسة قد تجاوزت حدود المعقول.
قد تكون أكسفورد أو
كامبريدج أو جامعات كندا وأوروبا هي الرابحة من هذه المعركة، لكن الخاسر الحقيقي هو
صورة أميركا كقوة معرفية. والخسارة الأكبر، هي لحلم طالب من تطوان أو فاس أو نواكشوط
كان يعلق صورة هارفارد في غرفته، لا ليرى فيها برجًا عاجيًا، بل نافذةً نحو مستقبلٍ
لا حدود له.
لقد سقط القناع، لا
عن جامعة، بل عن سياسة تعيد تشكيل العالم الأكاديمي بمعايير الرقابة لا الإبداع، وتهدد
بتحويل النخبة العالمية من طلاب إلى منفيين تعليميين، يبحثون عن وطن جديد للعلم...
خارج الولايات المتحدة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق