الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأربعاء، مايو 28، 2025

قراءة في كتاب "ثقافة التلاشي" لجان بودريار: ترجمة عبده حقي


من الصعب التورط في قراءة جان بودريار دون أن يشعر القارئ بأنه قد اجتاز مرآة سحرية تنقله من عالم المألوف إلى جغرافيا المفارقة والتلاشي. فكتابه "ثقافة التلاشي" لا يقدم أطروحات سهلة الهضم أو شعارات فكرية جاهزة، بل يقدّم أطلالاً فكرية، شذرات تأملية، ونقداً جذرياً لعصر يستهلك ذاته بقدر ما يستهلك صوره، حيث تختفي الحقيقة خلف طبقات كثيفة من "الواقع المحاكى" و"التفكك الرمزي".

في هذا الكتاب الذي صدر عام 1983 ضمن سياق نقد ما بعد الحداثة، يكشف بودريار انهيار البنى الرمزية للثقافة الغربية، ويؤكد أننا نعيش في زمن لم يعد فيه للرموز وظيفة إحالية إلى واقع ما، بل أصبحت الرموز تحيل إلى رموز أخرى في دائرة مغلقة من التكرار والمحاكاة. فالفن، الإعلام، السياسة، وحتى الجسد، لم تعد تمثل الواقع بل تَمحوه وتُنتج بدلاً منه واقعا زائفًا، مشوهًا، ومبهرجًا.

أحد المفاتيح الأساسية لفهم "ثقافة التلاشي" هو مفهوم «المحاكاة (Simulation)» الذي يطوره بودريار انطلاقًا من أعماله السابقة كـ "نقد الاقتصاد السياسي للعلامة" و"المجتمع الاستهلاكي". في هذا النص، يأخذ المفهوم بعدًا أكثر تشاؤمية، إذ يرى أن الثقافة لم تعد مرآة للواقع أو وسيلة لفهمه، بل تحوّلت إلى مصنع ضخم لإنتاج "وقائع بديلة"، أو كما يسميها "الواقع الفائق"" (Hyperreality).

في هذا الإطار، لا تعود الأخبار التلفزيونية تنقل الأحداث، بل تخلقها وتنسج حولها أسطورة بصرية. النجوم لا يمثلون شيئًا سوى أنفسهم كأيقونات، والسياسة تتحول إلى مسرح رمزي لا أثر له في الواقع. إننا، كما يقول بودريار، لم نعد نعيش في عصر الأيديولوجيات بل في عصر الصور، حيث الحقيقة تتلاشى كأثر قديم في أرشيف لم يعد أحد يفتحه.

"الثقافة تتلاشى ليس لأنها تموت، بل لأنها تتكاثر بلا نهاية"، هكذا يلخص بودريار ظاهرة الإفراط الثقافي في زمن ما بعد الحداثة. إذ يشير إلى أن كل شيء صار ثقافة: الماركات، الموضة، الأخبار الزائفة، الترفيه السياسي، وحتى الجرائم التي تحولت إلى "عروض واقعية" على شاشات التلفزيون. لقد فقدت الثقافة وظيفتها النقدية أو المعرفية، وتحولت إلى فلكلور استهلاكي يغذي النظام الرأسمالي الذي يستوعب كل تمرد ويحوله إلى سلعة.

في إحدى تأملاته الرمزية، يقارن بودريار بين متحف اللوفر ومركز تجاري: كلاهما يمثلان "مقابر للمعنى"، حيث يُعرض التراث أو الموضة دون رابط حي بالزمن أو الواقع. فحتى الذكريات لم تعد حميمية بل أصبحت أرشيفًا رقميًا على منصات التواصل.

 

جانب آخر مهم في "ثقافة التلاشي" هو تحليله الدقيق لتفكك الهوية الفردية. إذ يرى بودريار أن الإنسان الحديث لم يعد يُعرّف نفسه من خلال علاقته بالذات أو بالآخرين، بل من خلال "صورته" كما تظهر على الشاشات أو في الفضاء الرقمي. الهوية لم تعد "كيناونة"، بل سلسلة من الانعكاسات: "أنا ما تقوله كاميرتي عني". ويؤكد أن "الأنا" لم تعد مركزًا نفسيًا أو أخلاقيًا، بل تحولت إلى "وظيفة رمزية" في منظومة مرئية تلتهم الفرد وتسجّله كرقم أو ملف بيانات.

صدر هذا العمل في سياق ما بعد ثورة 1968 بفرنسا، حيث بدأ المفكرون في مراجعة نقدية جذرية لمنظومات الحداثة والعقلانية الغربية. ويندرج الكتاب ضمن تيار ما بعد البنيوية إلى جانب أعمال ميشيل فوكو، جاك دريدا، وجيل دولوز، غير أن بودريار يتفرد بلغته النثرية المشحونة بالاستعارات والصور الشعرية. لا يقدم أطروحات مغلقة أو إثباتات منطقية، بل يبني نصًا يشبه "الهايكو الفكري" الذي يضيء كبرق عابر ثم يتلاشى.

لقد تأثر بودريار بشكل خاص بأفكار رولان بارت حول "موت المؤلف" وبنيامين في أطروحته عن "العمل الفني في عصر الاستنساخ الآلي"، كما استوحى من ماركس فكرة "تشييء الإنسان"، لكنّه قلبها ليتحدث عن "تشبيه الإنسان"، أي تحوّله إلى صورة خالية من الجوهر.

رغم مرور أكثر من أربعة عقود على صدور الكتاب، فإن "ثقافة التلاشي" يحتفظ براهنيته، بل يتضاعف تأثيره في زمن الذكاء الاصطناعي ووسائل التواصل الاجتماعي. إن انشغالنا المفرط بالذات المصورة، بالتفاعل الرقمي، وبالعلامات التجارية كهوية، يبرهن على صحة رؤيته التشخيصية. كما أن ظواهر مثل "الترند"، "المؤثرين"، و"المحتوى الفيروسي" هي تطبيقات حية لما يسميه بودريار بـ "الواقع الفارغ من المعنى المشبع بالعرض".

لم يكن بودريار نبيًا ولا يوتوبيًا، بل كان ناقدًا شجاعًا لعصر فقد قدرته على التمييز بين الأصل والنسخة. في "ثقافة التلاشي"، يرسم لنا خريطة لفقدان المعنى في زمن يحاكي كل شيء، ولا يُنتج إلا صورًا عن صور. هذا الكتاب ليس دعوة لليأس، بل لحظة تأمل عنيفة في مرآة الواقع، تفرض علينا أن نتساءل: من نحن حقًا عندما نختفي خلف شاشاتنا؟

0 التعليقات: