من مكاني هنا، في ركن هادئ من مكتبي في فاس الذي تتناثر فيه المجلات القديمة، أعترف أنني أُصارع نوعاً من الحنين، لا يخص فقط رائحة الورق، بل طقوس القراءة نفسها: التقليب، التمهل، الملامسة. كنت من أولئك الذين يرون في المجلة الورقية شكلاً فنياً قائماً بذاته، لا مجرد وسيلة نقل للمعلومة. ولكن، بين أصابع هذا الزمن الرقمي، بدأت أشعر أن الورق ينزلق ببطء نحو متحف الذاكرة.
لم تكن المجلة الورقية مجرد وعاء للخبر أو الرأي، بل كانت بنية ثقافية لها إيقاعها الزمني المختلف. أسبوعية أو شهرية، تُقرأ بتأنٍّ، وتُحتفظ بها في المكتبات المنزلية وكأنها كنوز ثمينة . لكنها اليوم تواجه واقعاً قاسياً تفرضه المنصات الرقمية، حيث أصبحت السرعة، لا الجودة، هي معيار التقييم. أذكر كيف نشرت "نيوزويك" عام 2012 إعلاناً عن توقف إصدارها الورقي بعد ثمانين عاماً من التوزيع، لتعود لاحقاً جزئياً ولكن بهوية مشوشة، وكأنها لم تجد لنفسها موطئ قدم في معركة لم تعد لغتها هي اللغة السائدة.
المغرب بدوره لم يكن
بعيداً عن هذه التحولات. حين كنت شاباً في مدينة مكناس، كنت أُطالع مجلات مثل
"الزمن المغربي" و"فكر ونقد"، وقد كانت تعبر عن لحظة فكرية فيها
من العمق ما لا تتيحه منشورات وسائل التواصل اليوم. لكن المشهد تغير. المجلات الورقية
المغربية تكاد تختفي، لا بسبب غياب الفكر، بل لأن آليات النشر والتوزيع والتسويق لم
تتأقلم مع قواعد اللعبة الجديدة. اليوم، يبدو أن خوارزميات "فيسبوك" و"تيك
توك" هي من تقرر ما يُقرأ وما يُنسى.
رغم ذلك، لا أرى أن
المجلات الورقية تواجه "موتاً طبيعياً"، بقدر ما تواجه تحولاً بنيوياً يقتضي
منها إعادة تعريف ذاتها. ففي كتاب "The Content Trap" لبهارات أناند، يشير إلى أن المشكلة ليست
في المحتوى الورقي نفسه، بل في ضعف قدرة المؤسسات التقليدية على بناء علاقات تفاعلية
مع القراء في العصر الرقمي. لقد تعلمت منصات مثل "Vox" و"The Atlantic" كيف تعيد توظيف مقالاتها المكتوبة عبر الفيديوهات
القصيرة والتدوينات الصوتية، وهو ما فشلت فيه أغلب المجلات العربية الورقية.
في المقابل، ثمة بُعد
جمالي وفكري ما زال للورق سحره الخاص. مجلة مثل
"The
Paris Review" لا تزال تُطبع وتُقرأ، لأنها تقدم ما لا يمكن اختزاله
في منشور قصير أو تفاعل سريع. هناك نوع من "الزمنية العميقة" الذي تخلقه
المجلة الورقية، تُتيح للقارئ أن يغوص، لا أن يتزحلق فوق سطح النصوص. وهذا ما ينبغي
للمجلات أن تُراهن عليه: العمق، السياق، والارتباط بالزمن الثقافي، لا الخضوع لنزوات
لحظية.
من جهة أخرى، يبدو
أن الذكاء الاصطناعي لن يكون مجرد منافس جديد، بل قد يشكل تحدياً وجودياً للصحافة الورقية.
تخيل أن خوارزميات قادرة على توليد محتوى بصري ومكتوب، تملك من القدرة على تحليل اهتمامات
القارئ أكثر مما يملكه أي محرر تقليدي. هذا يطرح سؤالاً فلسفياً: هل ما نقرؤه هو ما
نختاره أم ما يُختار لنا؟ وهل بإمكان المجلة الورقية أن تُعيدنا إلى لحظة الاختيار
الحر، حين كنا نشتريها لا لأن خوارزمية اقترحتها، بل لأننا نثق في خطها التحريري؟
وباعتباري مغربياً
يعيش على مفترق هذه التحولات، لا يسعني إلا أن أدعو إلى مقاومة فكرية ناعمة، تُدافع
عن بقاء المجلة الورقية ليس بوصفها أثراً من الماضي، بل بوصفها شكلاً من المقاومة ضد
التلاشي السريع للمعنى في زمن السرعة القصوى. ولعل الحل يكمن في "الهجين":
أن تحتفظ المجلة بروحها الورقية لكن بذكاء رقمي، كما تفعل بعض الدوريات التي تُصدر
نسخاً مطبوعة متميزة تُرفق بتجارب تفاعلية رقمية.
في النهاية، لست متشائماً
تماماً. المجلة الورقية، كما عرفتها، قد لا تعود كما كانت. لكنها، إن أرادت الحياة،
فعليها أن تُدرك أن المستقبل ليس في استنساخ الماضي، بل في تجديد صيغته بروح الحاضر.
الورق لا يموت، لكنه يختبئ أحياناً… ينتظر قارئاً مختلفاً، ومحرراً أكثر وعياً، وزمناً
يُعيد للقراءة وقارها.
0 التعليقات:
إرسال تعليق