لم أكن أتصوّر يومًا أن نكتةً عابرة في صورة مرفقة بوجه ساخر يمكن أن تزاحم افتتاحيات الصحف الجادة، أو أن تصبح مصدرًا مرجعيًا لنقاشات سياسية حامية الوطيس. لكنني، كمواطن مغربي يتابع عن كثب تطور الإعلام الرقمي، وجدتني عاجزًا عن تجاهل الطفرة التي حققتها ثقافة "الميم" (Meme Culture) في السنوات الأخيرة، خاصة في علاقتها بالتغطية السياسية، سواء في المغرب أو خارجه.
ظهر "الميم"
أول مرة كمجرد أدوات للسخرية، مستلهمة من وجوه الممثلين أو مشاهد الأفلام أو تعابير
الحيوانات. غير أن هذا الشكل التعبيري، البسيط ظاهريًا، سرعان ما اكتسب طابعًا سياسيًا
متناميًا، ليصبح وسيلة فعالة لتوصيل رسائل معقدة في صورة مختزلة وسريعة الهضم. في سياق
الحملات الانتخابية، الاحتجاجات الشعبية، أو حتى أثناء الأزمات الدولية، صارت
"الميمات" أشبه بمصابيح تسخر من هالة السلطة، أو تكشف نفاق النخبة، أو تترجم
وعيًا شعبيًا جديدًا يتحدى الخطاب الرسمي ويعيد تأطير الأحداث من زاوية قاعدية.
أذكر جيدًا كيف انتشرت
صور "ميمية" في المغرب بعد تصريحات بعض الوزراء حول الغلاء و"التمارا"
اليومية للمواطن. تحولت هذه التصريحات إلى مادة خام لصناعة ميمات قاسية وساخرة في آنٍ
واحد، لكنها أكثر بلاغة من عشرات المقالات التحليلية. ولعل ما يثير الانتباه في هذه
الظاهرة هو قدرتها على الدمج بين التهكم الفني والتفكيك السياسي، بين النكتة والشهادة،
وبين العبث والوعي.
في كتابها "This Is Why We Can't
Have Nice Things"تعتبر المؤلفة "ويتني فيليبس" أن الميمات السياسية ليست مجرد
أدوات للتسلية، بل تشكل امتدادًا لحوار عام يتم خارج مؤسسات الإعلام التقليدي، في فضاء
حرّ وإن كان فوضويًا. وهو ما نلاحظه فعلاً في التحولات التي عرفتها صحافة المواطن،
حيث صارت "الميمات" توازي التحقيقات الصحفية في قدرتها على استقطاب الرأي
العام، بل وقد تتفوق عليها في الانتشار والتأثير العاطفي.
في السياق المغربي،
من المهم الانتباه إلى أن الميم السياسي لم يعد مقتصرًا على التهكم من السياسيين، بل
صار أداة مقاومة رقمية، خصوصًا في قضايا مثل حرية التعبير، غلاء المعيشة، أو حتى دعم
فلسطين. ولعل أبرز مثال على ذلك، هو "ميم" القوس الإلكتروني الذي تحول إلى
رمز لمناصرة القضية الفلسطينية، متحديًا محاولات تشويه هذه القضية في بعض وسائل الإعلام.
غير أن هذا الانفجار
التعبيري لا يخلو من التحديات. فثقافة الميمات ليست دومًا بريئة، بل يمكن أن تكون أداة
للتضليل، للتحريض، أو لترويج الأخبار الزائفة في غلاف ضاحك. تقرير «Harvard Kennedy School» الصادر في 2022 يشير إلى أن بعض الجماعات
السياسية المتطرفة عمدت إلى استغلال "الميمات" لنشر خطاب الكراهية وتمويه
الحقائق، في ظل تراجع الثقة في الإعلام التقليدي وغياب التأطير القانوني الواضح لهذه
الظاهرة.
كمتابع لهذه التحولات،
لا أستطيع أن أغفل التحول الذي فرضته الميمات على الصحفيين أنفسهم. كثير من المنابر
الإعلامية بدأت تعتمد الميمات كجزء من التغطية، ليس فقط لتبسيط المعلومة، بل لإعادة
تشكيل العلاقة مع جمهور جديد، متطلب، سريع الاستجابة، وغير مهتم بالكلمات الطويلة.
وهنا تبرز مفارقة غريبة: الصحافة التي كانت تخشى أن تُستبدل بالصورة، صارت هي من يركض
خلفها، تستعيرها، تبرر وجودها من خلالها، وتبحث في إيقاعها عن بقايا التأثير.
أما على المستوى التربوي،
فإني أرى أن التحدي الحقيقي لا يكمن فقط في فهم هذا التحول، بل في تعليم الأجيال القادمة
كيف تقرأ هذه الصور، كيف تفرّق بين الميم كأداة للتحليل، والميم كأداة للتلاعب. إننا
في حاجة إلى "ثقافة بصرية سياسية" جديدة، تُمكّن المواطن من ممارسة النقد،
لا فقط من خلال الكلمات، ولكن أيضًا من خلال الصورة المركبة، الساخرة، المختزلة، التي
قد تحمل في طيّاتها قدرًا من الحقيقة أكبر من أي خطاب رسمي.
باختصار، لم تعد التغطية
السياسية اليوم محصورة في مقال أو تقرير أو نشرة إخبارية. لقد أصبحت تكتب أيضاً بلغة
"ميمية"، تنبض بروح السخرية، تنحت المفارقة، وتختبر السلطة في أبسط تجلياتها:
ضحكة عابرة، لكنها مشحونة بالدلالات. وما أراه واضحًا الآن هو أن "الميم"
لم يعد مجرد صورة طريفة، بل أصبح مرآة لواقع سياسي متغيّر، تعكس ما نخاف أن نقوله،
أو ربما ما لم نعد نحتاج إلى قوله لأن الصورة قالت كل شيء.
0 التعليقات:
إرسال تعليق