لم يكن غريبًا أن تظهر جبهة البوليساريو مجددًا في مشهد احتفالي رسمي بأديس أبابا، خلال تخليد الذكرى الثانية والستين ليوم إفريقيا، محاولة استغلال هذه المناسبة القارية لتسويق ما تسميه بـ"السفارة الصحراوية" باعتبارها كيانًا معترفًا به، في حين أن الواقع السياسي والقانوني يكشف هشاشة هذا الكيان ودعمه المصطنع من قبل الجزائر.
إن ما تم وصفه في البيان الدعائي الصادر عن وكالة أنباء "واص"، التابعة للبوليساريو، من مشاركة "نشطة" في احتفالات الاتحاد الإفريقي، لا يعدو كونه تمظهرًا سياسيًا مألوفًا في إطار دعاية مدعومة سياسيًا وماليًا من النظام الجزائري. فمن المعروف أن الجزائر تمارس ضغوطًا دبلوماسية منذ عقود على بعض أجهزة الاتحاد الإفريقي، وتستخدم دعمها المالي واللوجستي للتأثير على قراراته، خصوصًا فيما يتعلق بملف الصحراء المغربية.
يدّعي البيان أن ما يسمى بـ"الجمهورية الصحراوية" عبّرت عن التزامها بمبادئ الوحدة الإفريقية والعدالة وتقرير المصير، وهي مفارقة صارخة، لأن هذه "الجمهورية" لم تُنتَخَب من طرف أي شعب، ولا تملك أي سيادة فعلية على الأرض، بل يتم تسييرها من مخيمات تندوف الواقعة تحت هيمنة الجزائر السياسية والعسكرية، في انتهاك صارخ للحق الإنساني في حرية التنقل والتعبير.
من جهة أخرى، فإن ترويج البوليساريو خلال هذا الحدث لما تسميه "الوضع القانوني للجمهورية الصحراوية" لا يستند إلى أي أساس شرعي في القانون الدولي. فالأمم المتحدة نفسها لا تعترف بهذا الكيان، ولا تدرجه ضمن الدول الأعضاء، بل تعتبر النزاع حول الصحراء قضية غير محسومة تتطلب تسوية سياسية واقعية. وهنا تبرز أهمية مبادرة الحكم الذاتي المغربية، التي حظيت بدعم دولي واسع واعتُبرت من قبل قوى كبرى مثل الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا، إطارًا جادًا وذا مصداقية لحل هذا النزاع المزمن.
في المقابل، فإن تقديم لوحات فنية وهدايا رمزية، مثل القبعات والقمصان، لا يمكنه أن يحجب الواقع الحقيقي: لا توجد دولة، ولا توجد مؤسسات سيادية، ولا اقتصاد، ولا عملة، ولا نظام سياسي منتخب. كل ما في الأمر هو كيان ورقي يتم تحريكه وفقًا لمصالح الجزائر الإقليمية، التي تستثمر في هذا النزاع لخدمة أجنداتها الجيوسياسية ولإضعاف المغرب إقليميًا.
ولعل أخطر ما تضمنه هذا الحدث ليس فقط محاولات التجميل الدعائي، بل توظيف مفاهيم نبيلة مثل "العدالة التعويضية" و"الذاكرة الإفريقية" و"حوار الأجيال"، في إطار قضية تُستخدم فيها مخيمات تندوف كمواقع للتجنيد الأيديولوجي، ومختبر للترويج لخطاب الضحية، في حين أن من يعاني هناك هم آلاف المدنيين المحتجزين الذين لا يملكون الحق في التعبير عن رأي مخالف لجبهة البوليساريو.
أما الحديث عن "نضال الشعب الصحراوي لإنهاء الاستعمار"، فهو تضليل واضح. فالصحراء المغربية استُرجِعت من الاستعمار الإسباني بموجب اتفاقات دولية وبمسيرة سلمية وطنية قادها المغرب سنة 1975، ومخطط الحكم الذاتي المغربي المعروض منذ سنة 2007 يقدّم حلاً متقدماً يضمن للساكنة تدبير شؤونها ضمن سيادة مغربية، وهو الحل الذي بات يحظى بإجماع متزايد على الصعيد الدولي.
وفي سياق الاحتفال بيوم إفريقيا، الذي يحمل معاني الوحدة والتحرر والتنمية المشتركة، يصبح من المحزن أن يتم إقحام كيان انفصالي في المناسبة، بينما الدول الإفريقية تسعى اليوم إلى تجاوز صراعات الماضي ومواجهة تحديات التنمية المستدامة والاندماج الاقتصادي. وهنا، تظهر الجزائر وحلفاؤها في موقف شاذ، يواصلون الرهان على تقسيم الشعوب وتمزيق الجغرافيا، في زمن تتجه فيه إفريقيا نحو الوحدة الحقيقية.
باختصار، ما جرى في أديس أبابا لم يكن احتفالًا بريئًا، بل محاولة استغلال سياسي لذكرى قارية عظيمة، عبر كيان وهمي يعاني من انعدام الشرعية والديمقراطية والسيادة، ويُستخدم كورقة تفاوضية في يد الجزائر. لكن التاريخ لا يُشترى بالقمصان والهدايا، والشرعية لا تُفرض بالتصريحات، بل تبنى على الواقعية السياسية والدعم الشعبي والدولي. وهذا ما تحقق لمبادرة الحكم الذاتي المغربية، وما تفتقده "الجمهورية الورقية" التي تحتمي بالشعارات بدل المؤسسات.
0 التعليقات:
إرسال تعليق