الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأربعاء، مايو 21، 2025

"ساعة الرمل لن تعود إلى الوراء" نص سردي : عبده حقي


لم أعد أبكي على ما ضاع. تعلمت ـ بعد أن شربت من كأس الفقد حتى الثمالة ـ أن ما مضى، لم يكن لي، ولو ركضت خلفه بأجنحة الريح. تعلمت من صمتي الطويل أكثر مما تعلمته من كلمات الآخرين، ومن جروحي أكثر مما تعلمته من كتب الفلاسفة. كل شيء يأتي في أوانه، هكذا همس لي الزمان ذات مساء، حين كنت على وشك الانهيار. كانت كلماته أشبه بيد خفية تنزع عن قلبي أثقاله، وتعيد ترتيب نبضاتي على إيقاع الصبر.

كم مرة بكيت على فرصة ضاعت؟ كم ليلة قضيتها في ندم مرير على حب انتهى، أو حلم تلاشى، أو طريق سلكته ثم تبين أنه لم يكن طريقي؟ كنت أظن، بسذاجة الذين يتوهمون السيطرة على الكون، أنني قادر على رسم قدري كما أشاء، أنني السيد المطلق لأوقاتي، وأن الزمن سيتبع رغباتي كما يتبع الظل الجسد. لكني كنت أجهل أن الحكمة تسكن في التأجيل، وأن العطاء الحقيقي لا يأتي إلا حين نكون مستعدين لاحتضانه دون خوف أو عجلة.

حدث أن فقدت أشياء كثيرة، بعضها كان جزءًا من كياني، وبعضها الآخر كنت أظنه سبب وجودي. وظننت، في لحظة يأس، أن الحياة لن تمنحني بديلًا، وأن ما مضى كان كل شيء. لكن الزمن، ذاك المعلم الصبور، أثبت لي أن كل ما ظننته نهاية، لم يكن إلا بداية متخفية. هناك لحظة لا يتعلمها الإنسان إلا عندما ينكسر: حين يدرك أن الفقد ليس عقابًا، بل إعدادًا.

كل شيء يأتي في أوانه. لا قبل دقيقة، ولا بعدها. ومن يحاول أن يُجبر النهر على تغيير مجراه، لا يحصد سوى العطش. وأنا كنت العطشان الذي حاول أن يشرب من الرمال. كنت أركض خلف أشياء لم تنضج بعد، أحاول أن أقطف ثمارًا خضراء، فلا أحصل إلا على مذاق مرارةٍ لزجة. تعلمت لاحقًا أن النضج يحتاج إلى شمس ووقت وصبر، وأن ما أبحث عنه سيأتي حين أكون أنا من يستحقه، لا حين أريده فقط.

أتذكر يومًا كنت فيه على حافة الانهيار، حين فشلت محاولة كنت أظنها فرصتي الوحيدة في الحياة. جلست على رصيف الوحدة، وكنت أسمع داخلي صوتًا مشوشًا يقول لي: "لقد فاتك كل شيء." لكني كنت أعمى عن حقيقة أن ما فاتني، لم يكن مكتوبًا لي أصلاً. ومع مرور الوقت، أدركت أن خسارتي تلك، كانت حماية متنكرة. كانت يد القدر تُبعدني عن طريق مُظلم، وأنا كنت أتمرد على تلك الحماية لأنني لم أكن أراها بعد.

ومع الأيام، بدأ كل شيء يتخذ شكله. الأشخاص الذين خرجوا من حياتي، لم يعودوا ضروريين. الأماكن التي حلمت بالوصول إليها، لم تعد تشبهني. وحتى أنا، لم أعد ذاك الذي كنت عليه. صرت أفهم الإيقاع الخفي للوجود، وأصغي له دون استعجال. كل فجر صار له معناه، كل تأخير يحمل بين طياته ترتيبًا دقيقًا لشيء أجمل لم أكن أتخيله.

الحزن على ما فات، صار عبئًا لا أريد حمله. ليس لأنه لا يستحق، بل لأنني تعلمت أن أرى ما بعد الحزن. أن في كل فقدان، بذرة ولادة، وفي كل تأخير، نُضج، وفي كل انكسار، شكل جديد من القوة. تمامًا كما تتشقق الأرض قبل أن تنبت، وكما يحتضر القمر قبل أن يعود بدرًا.

أؤمن الآن أن الزمان ليس عدوي، بل رفيقي. وأي شيء لم يحدث، لم يكن يجب أن يحدث في ذلك الوقت. لم أتأخر على حياتي، ولم تتأخر عليّ هي الأخرى. نحن فقط كنا نلتقي في محطة لم يحن موعدها بعد. وعندما حان، عرفت لماذا تأخرت. عرفت كم كنت بحاجة إلى الصقل، إلى التأمل، إلى التجرد من كل وهم سيطر على روحي.

فهل أحزن اليوم على ما فات؟ لا. بل أبتسم. أبتسم للفرص التي لم تُفتح أبوابها، لأنها لو فُتحت يومها، لربما دخلت منها روحي قبل أوانها، وضاعت. أبتسم للطرق التي لم أسلكها، لأنها كانت تحمل أشواكًا لا تراها العيون المتعجلة. أبتسم حتى للفشل، لأنه علمني أن النجاح ليس نتيجة الوصول، بل القدرة على النهوض.

كل شيء يأتي في أوانه. كل شيء، حتى هذه السطور. لم تكن لتُكتب لو لم أنضج بما يكفي لأقولها بلا مرارة. ولم أكن لأراها لو لم أمرّ من دهاليز التجربة وفوضى الانتظار.

أنا الآن أعيش على توقيت الوجود، لا على ساعتي الخاصة. أقرأ رسائل القدر في الفصول، وأنتظر زهرة الشتاء دون أن أطلب منها أن تزهر في تموز. وأهم ما تعلمته هو أن ما يأتيني متأخرًا، لا يأتي متأخرًا أبدًا. بل يأتي حين أكون أنا تمامًا كما يجب أن أكون: حاضرًا، نقيًا، وجاهزًا لأن أحتضن ما كتبه لي الزمان.

0 التعليقات: