الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأربعاء، مايو 21، 2025

من يملك الثقافة؟ قراءة نقدية في كتاب سوزان سكافير: ترجمة عبده حقي


في عالم تتزايد فيه حدة الصراعات حول الهوية والانتماء، وتغدو الحدود بين "الأصلي" و"المستعار" أكثر ضبابية، يأتي كتاب «من يملك الثقافة؟"* لسوزان سكافير كمداخلة جريئة وشجاعة في النقاش المعاصر حول «الملكية الثقافية». فالكتاب، الصادر عن جامعة روتغرز، لا يقدم إجابات جاهزة بقدر ما يثير أسئلة مقلقة عن الحدود الأخلاقية والقانونية للاستعارة الثقافية، وعمّا إذا كانت الثقافة، في جوهرها، شيئًا يمكن "امتلاكه" أصلاً.

منذ الصفحة الأولى، تدفع سكافير القارئ نحو مناطق حرجة في العلاقة بين الثقافة والحق، بين الفن والسوق، بين التقاليد والتحديث. فهي لا تكتب كأكاديمية منعزلة، بل كمن تعايش عن قرب ديناميات الهيمنة والتهميش، حيث تُختزل ثقافات الشعوب الأصلية أو الأقليات العرقية في ملابس، أطعمة، موسيقى، تُنتزع من سياقها وتُعاد إنتاجها في أسواق الموضة والترفيه دون اعتراف أو تعويض.

الثقافة بوصفها ملكية فكرية

من أبرز إسهامات سكافير أنها تطرح الثقافة كنوع من «الملكية الفكرية الجماعية». لكنها، في الوقت ذاته، تدرك أن القانون الغربي، الذي نشأ في ظل الرأسمالية الليبرالية، يصعب عليه استيعاب مفاهيم مثل "ملكية القبائل"، أو "المعرفة الشعبية"، أو "الممارسات الطقوسية". فتراها تتساءل: كيف يمكن حماية وصفة طعام تقليدية، أو رقصة دينية، أو تصميم قبلي عمره قرون من الاستلاب والتسليع؟ وهل من الممكن فعل ذلك دون الوقوع في فخ الانغلاق الهوياتي أو القومية الثقافية؟

الإشكالية التي تصوغها الكاتبة بذكاء تكمن في أن «القانون لا يحمي إلا ما يمكن توثيقه وتسجيله». أما المعرفة المتوارثة شفهيًا، أو الرموز التي تشكل هوية جماعة معينة، فهي تُترك غالبًا نهبًا للسوق. وهنا يكمن الخطر: فحين يتم تبني لباس تقليدي في عروض الأزياء الغربية، أو استخدام نغمات قبائل إفريقية في موسيقى البوب، فإن ذلك لا يُعد بالضرورة "سرقة" قانونية، لكنه يترك إحساسًا عميقًا بالغضب لدى الجماعات الأصلية التي ترى نفسها تُستخدم دون أن تُسمع.

بين التقدير الثقافي والاستيلاء الثقافي

تقدم سكافير تمييزًا مهمًا بين «التقدير الثقافي (Cultural Appreciation) والاستيلاء الثقافي  (Cultural Appropriation) . الأول يشير إلى تفاعل قائم على الاحترام والمعرفة، بينما الثاني يعني انتزاع عناصر ثقافية من دون سياقها، ولا فهم دلالاتها، ولا الاعتراف بمنبعها. ولكن الكاتبة تدرك أن الحدود بين المفهومين غالبًا ما تكون ضبابية. فهل استخدام طاهٍ فرنسي لتوابل آسيوية يُعد تقديرًا أم استيلاءً؟ وماذا عن مغنية بوب ترتدي زيًا هندوسيًا في فيديو كليب؟

الجواب لدى سكافير ليس قانونيًا محضًا، بل أخلاقي-سياسي. فهي تدعو إلى «مبدأ الاعتراف (Recognition) كمفتاح للحل: الاعتراف بالجماعة الأصلية، بتاريخها، بإسهاماتها، وبحقها في أن تُستشار عندما تُستخدم ثقافتها. وهنا تبرز إشاراتها المتكررة إلى النظريات ما بعد الكولونيالية، خصوصًا إدوارد سعيد وهومي بابا، حيث ترى أن الثقافة ليست شيئًا ساكنًا بل مجال صراع وتفاوض مستمر.

القانون عاجز أمام التنوع الثقافي

من الانتقادات العميقة التي تقدمها سكافير أن «القانون الغربي للملكية الفكرية» تأسس على نموذج فردي للاختراع والإبداع، يتجاهل النماذج الجمعية والمعتمدة على التراكم. فمثلاً، لا يمكن تسجيل رقصة من صنع جماعة قبلية باعتبارها "ابتكارًا"، لأن المبتكر غير محدد، ولأنها لا تخضع لمعيار الأصالة الفردية كما يفرضه القانون الأمريكي. وبهذا، تُترك هذه الثقافة مكشوفة قانونيًا، في حين تحمي التشريعات الأغاني التجارية أو التطبيقات الرقمية لأنها تنتمي إلى منظومات إنتاج حديثة.

لكن الكاتبة لا تتوقف عند حدود التشخيص. بل تقترح عددًا من الحلول، أبرزها إنشاء «صناديق للتراث الثقافي»، ووضع آليات تشاورية مع المجتمعات الأصلية، وتوسيع مفهوم "الحقوق الجماعية" في القانون الدولي. كما تقترح إدراج أطر أخلاقية في الممارسات التجارية والثقافية، بما يجعل الاعتراف والانصاف جزءًا من التعامل مع الرموز والمعارف المستمدة من ثقافات أخرى.

خلاصة: لا ملكية دون عدالة

كتاب «من يملك الثقافة؟"* ليس كتابًا في القانون فقط، بل هو عمل في «الأنثروبولوجيا القانونية، والأخلاقيات الثقافية، ونقد الهيمنة الرمزية». وهو في الوقت ذاته دعوة مفتوحة لإعادة التفكير في علاقتنا بما ليس "لنا"، وفي مسؤوليتنا تجاه من نقتبس منهم، سواء أكان ذلك في اللباس، أو الطهي، أو الموسيقى، أو الفن.

الرسالة العميقة التي تُمرّرها سوزان سكافير يمكن تلخيصها في عبارة واحدة: «ليست المشكلة في الاقتباس الثقافي، بل في غياب التوازن، وفي عدم الاعتراف، وفي الجهل بتاريخ الجراح.» ولهذا، لا يمكن الحديث عن "ملكية ثقافية" دون عدالة ثقافية.

0 التعليقات: