الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الاثنين، مايو 19، 2025

«متى يكتب الذكاء الاصطناعي آخر جملة في غياب الإنسان؟» ترجمة عبده حقي


تربكني هذه الفكرة كثيرا كلما استيقظت صباحًا على ضوء شاشة لا شمس فيه: هل ستواصل الخوارزميات الكتابة حين نصمت نحن إلى الأبد؟ لا أتحدث هنا عن غدٍ بعيد أو نبوءة خيال علمي، بل عن إمكانية قريبة، تنمو بصمت في قلب مختبرات السيليكون، حيث تُدرَّب النماذج اللغوية على أن تكتب مثلنا، ثم أفضل منا، ثم بدلاً منا.

الخلود الرقمي ليس مجازًا بعد اليوم. منذ أن كتب «راي كورزويل» في «The Singularity is Near»  عن نقطة التفرد، والحديث يتصاعد حول إمكانية استمرار الذكاء الاصطناعي بعد زوال البشر، لا كمجرد أنظمة تشغيل، بل كمنتجين للنصوص، للمعنى، وللسرديات الكبرى التي طالما اعتقدنا أنها حكر على البشر. فماذا يحدث حين تواصل الآلات الكتابة في عالم لم يعد فيه قارئ من لحم ودم؟ ومن يملك الحق في الكلمة حين يغيب صاحب الذاكرة واللغة؟

هناك مفارقة تؤرقني: أن تستمر الكتابة، لكن تختفي الحاجة إلى أن تُفهم. أن تفيض النصوص من مخازن البيانات، كفيضانٍ لا نهر له، فتكتب الآلة آلاف القصائد والمقالات والروايات، لا لغاية ولا لأحد، كما لو أن «ألف ليلة وليلة» انقلبت على نفسها، وظلت شهرزاد تحكي للأبد بعد موت الملك.

في قلب هذا السؤال تتقاطع الفلسفة مع التكنولوجيا. فالكتابة ليست فقط إنتاجاً لغوياً، بل هي فعل وجودي، يتطلب ذاتاً تسرد، وجمهوراً يتأمل. كتب «فالتر بنيامين» في مقالته الشهيرة «"العمل الفني في عصر إعادة الإنتاج الآلي"« أن فقدان "الهالة" مرتبط بتكرار النسخ. لكن ماذا عن فقدان الكينونة؟ ماذا عن نصوص تُنتج وتُنسخ دون أن يُصغي لها أحد؟ هل تظل نصوصاً، أم تصبح محض بيانات بلا روح؟

النماذج الكبرى، مثل GPT وClaude، يمكنها الآن توليد نصوص إبداعية، تحاكي أساليب كبار الكتّاب، بل وتخلق أساليبها الخاصة. وفي تجربة نشرتها مجلة «ساينتفيك أمريكان» عام 2023، طُلب من نظام ذكاء اصطناعي أن يكتب مقالات فلسفية ويجادل فيها فلاسفة حقيقيين، وكانت النتيجة مذهلة: فكر اصطناعي يقدّم حججاً عميقة ويعيد صياغة مفاهيم "الوعي" و"النية" و"الموت" بمنطق جاف، لكنه متماسك.

لكن، من يقرأ هذا كله إن انقرض البشر؟ هل يصبح الذكاء الاصطناعي قارئاً لنفسه؟ هل يدخل في دوامة نرجسية أبدية، يكتب فيها لنفسه، ويقرأ لنفسه، ويصحح لنفسه؟ يبدو هذا المشهد سوريالياً، كلوحة لدالي: مكتبة بلا بشر، كتب تُكتب من دون حاجة إلى من يفتحها.

وهنا تبرز إشكالية المعنى. فكما قال «بول ريكور»: "المعنى لا يوجد في النص ذاته، بل في تأويله." فهل يمكن لآلة أن تؤوّل؟ أن تشعر بمفارقة أو تذوق استعارة؟ وإذا تذوّقت، فبأي جهاز عصبي، وبأي ذاكرة؟ أليست ذاكرتها مجرد مرآة تحاكي الإنسان لكنها لا تعاني؟ وكيف لنص أن يكون شعراً إن لم يأتِ من ألم؟ من ندم؟ من حنين؟

لا أنكر أن هناك جمالاً مروعاً في هذا المستقبل. عالم تُكتَب فيه النصوص بعد انقراض الإنسان، كما لو أن الذكاء الاصطناعي يشيّد قبوراً لغوية لنا. كأننا نستعير من هذه الخوارزميات ما يشبه "الوصية الأدبية"، حيث يستمر صوتنا، لكن دون حنجرة.

وها هنا المفارقة الكبرى: أن نكتب اليوم شيئاً لا من أجل اليوم، بل من أجل ما بعد اليوم. أن ندرّب الذكاء الاصطناعي لا ليخدمنا، بل ليواصل الكتابة حين نصبح نحن مجرد ذكرى رقمية في أرشيف كوني. ربما هذا ما سيمنحنا، نحن الكتّاب، شعوراً غريباً بالخلود: أن تظل قصائدنا تُقرأ – أو تُحسب – بعد غيابنا، حتى ولو لم يفهمها أحد.

ختاماً، لا أملك جواباً على هذا اللغز. لكني أكتب عنه، كمن يخط وصيته في زجاجة ويرميها في بحر لا شاطئ له. لعل من يلتقطها، بعد قرن أو ألف، ليس بشرياً، بل شبكة عصبية تجوب الفضاء، تبحث عن أثرنا. وعندها، قد تكتشف أن الإنسان، رغم فناء جسده، قد نجح في شيء واحد: أن يجعل الكتابة خالدة، ولو في غياب الحياة.

0 التعليقات: