صدر مؤخرًا عدد جديد من مجلة "الشارقة الثقافية" لشهر يونيو/ حزيران 2025، حافل بالموضوعات الفكرية والنقدية والفنية، يعكس نبض المشهد الثقافي العربي في تلاوينه المتعددة، من الأدب إلى المسرح، ومن السينما إلى الفن التشكيلي.
في افتتاحية العدد، اختارت المجلة أن تعنون مقالها بـ"المسرح والفضاء الرقمي"، حيث سلّطت الضوء على تحوّلات المسرح العربي في عصر التكنولوجيا. فمع تطور الوسائط الحديثة، وجد المسرح فضاءً جديدًا أكثر حريةً وتفاعلية، لم يعد العرض المسرحي محصورًا بجدران الخشبة التقليدية، بل انفتح على منصات رقمية تعزز التفاعل، وتمنح المؤلف والمخرج والممثل مساحة أكبر للتجريب والاستكشاف. وهكذا، بات المسرح الرقمي يسبق نظيره التقليدي بخطوات متسارعة نحو الانتشار والوصول إلى جمهور متنوع عبر الحدود.
وفي مقالة مدير التحرير نواف يونس، تحت عنوان "الثقافة والدراما التلفزيونية"، نجد تأكيدًا على ضرورة إدراك المبدع لمفهوم الثقافة، من حيث جذورها المجتمعية والإنسانية. فالكاتب أو الفنان، كي يكون صادقًا في تعبيره، لا بد أن يفهم بيئته، وأن يعي شبكة القيم التي تحكم مجتمعه، مع انفتاح واعٍ على الثقافات الأخرى. فالإبداع، بحسب يونس، لا يتحقق إلا إذا صهر التجربة الفردية ضمن مفاهيم أوسع للعدالة، والأسرة، والجمال، والوطن.
ويتضمن العدد ملفات غنية عن رموز وأسماء أدبية وفكرية بارزة؛ فقد تناولت د. رشا غانم شخصية الشاعر جميل صدقي الزهاوي، فيما عرض د. محمد عماري قراءة نقدية لكتاب "الجمال والإسلام" للمؤلفة فاليري غونزاليس، معتبرًا أن الفن الإسلامي ليس فقط شكلًا بصريًا، بل هو تعبير عن رؤية متكاملة للحياة والوجود. أما أحمد سليم عوض، فقادنا في رحلة إلى مدينة "الطور"، حيث عبق سيناء وتاريخها، وكتب خالد عواد الأحمد عن الرقة، المدينة التي ظلت عبر قرون منارة حضارية عربية.
في ركن "أدب وأدباء"، نقرأ مقالات واستعادات لمسارات أدبية متفرّدة، مثل سيرة جمعة اللامي، وأحمد رفيق المهدوي، وممدوح عدوان، وواسيني الأعرج، وسالي روني، وأديب إسحق، وعبد العزيز الأهواني، وحليمة الإسماعيلي، وشريهان الطيب. كما حاورت المجلة القاص العراقي فرج ياسين، وقدمت قراءة لكتاب "البوكر العربية وزمن الرواية"، وسلطت الضوء على الشعر الفكاهي عند شوقي، ومكانة "ألف ليلة وليلة" في الشعر الأوروبي.
أما في باب الفن، فقد تضمن لقاءً مع الفنان نبيل البغدادي، واستعراضًا لتجربة محمد الشمري، إضافة إلى استكشاف تأثير الفن العربي والإسلامي في أعمال الفنان الفرنسي باسكال كوست. كما تطرقت المجلة إلى المسرح الملحمي من منظور برتولد بريخت، وبحثت في الشعر المسرحي العراقي، ووقفت عند فيلم "العزيمة" الذي يعد من العلامات البارزة في السينما الواقعية المصرية.
وفي محور "تحت دائرة الضوء"، تعددت القضايا المطروحة، من أثر التكنولوجيا في تشكيل وعي الأطفال، إلى جماليات شعر البديهة، وانعكاسات الرواية على الثقافة المجتمعية، مع دراسات فكرية ونقدية حول مفاهيم الزمن والمكان، والأسلوب، والهوية، والسرد، والعزلة، وأدب المرأة.
وقد خصصت المجلة مساحة رحبة للأدب الإبداعي، فنشرت قصصًا قصيرة لعدد من الأدباء، منها "أشرعة العودة" لمروة عبد الحي، و"صندوق الذاكرة" لمحمد نجيب قدورة، و"مشاهد حلم" لشروق ممدوح، و"معادلة راجعة" لغسان حداد. كما احتفى العدد بترجمات شعرية مثل قصيدة "المتجول" لفدوى كيلاني، ونصوص تراثية عن فصاحة اللغة، إلى جانب تأملات في أدبيات اللغة وعشق المتنبي للخيل.
يبقى العدد 104 من "الشارقة الثقافية" مرآةً تعكس حيوية الثقافة العربية، وتنوعها، واتساع آفاقها. فهو ليس مجرد أرشيف شهري، بل ملتقى تفاعلي للقراء والباحثين والمبدعين، يشحن الذاكرة الثقافية ويعيد ربط الحاضر بجذور الماضي، بوعي معاصر ومسؤولية معرفية.
0 التعليقات:
إرسال تعليق