الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الاثنين، يونيو 09، 2025

من النقد الأدبي إلى النقد الحاسوبي: عبده حقي


في لحظة ما من حياتي الدراسية، وأنا أقرأ "بنية الثورات العلمية" لتوماس كون، تساءلت: هل يمكن لثورة مماثلة أن تقع في حقل النقد الأدبي؟ كان السؤال آنذاك محض تأمل، لكن دخول الذكاء الاصطناعي على خط التأويل والنقد جعلني أرى هذا الاحتمال يتجسد أمامي. إننا نعيش اليوم مخاض نظرية جديدة، أو ربما انعطافة إبستيمولوجية، تتشكل ملامحها تحت مسمى “النقد الحاسوبي”، ذلك المفهوم الذي يجمع بين الآلة والنص، بين البيانات والدلالة، بين الشعر والمعادلة.

لست من أولئك الذين يرون في الذكاء الاصطناعي نقيضًا للمخيلة، ولا من أولئك الذين يختزلون الأدب في انفعالات إنسانية لا يمكن أن تترجمها خوارزمية. على العكس، أعتقد أن التحدي الحقيقي اليوم هو كيف نحول أدوات الذكاء الاصطناعي من مجرد تقنيات إلى أطُر معرفية تُسائل البنية العميقة للنصوص، وتعيد ترتيب علاقة القارئ بالمؤلف، أو بالأحرى، بالمؤلف «الافتراضي».

في سياق هذه التحولات، يمكن أن نذكر أعمال الباحث الأمريكي «ستيفن رامزي»، الذي طرح في كتابه «Reading Machines: Toward an Algorithmic Criticism» (2011)  تصورًا جريئًا: القراءة بوصفها نشاطًا خوارزميًا. بالنسبة له، ليست الآلة مجرد وسيط، بل طرف تأويلي قادر على الكشف عن بنى خفية داخل النصوص، بنى لا يمكن للعين المجردة، مهما بلغت من يقظة، أن تدركها بالقراءة الخطية التقليدية.

لقد أدركت، وأنا أتتبع هذا المسار، أن النقد الحاسوبي لا يعني الاستغناء عن الحس الجمالي، بل يعني إعادة توزيع المهام داخل العملية النقدية: حيث تتولى الخوارزميات تحليل التكرارات، الإيقاعات، أنماط الخطاب، بينما يحتفظ الناقد بوظيفته الأساسية في التأويل وربط هذه المعطيات بسياقاتها التاريخية والفلسفية. وكأننا بصدد «نقد مشترك»، يتقاطع فيه ما هو رقمي بما هو إنساني، وما هو كمي بما هو نوعي.

تأمل مثلاً الطريقة التي يتم بها تحليل "الأدب الكبير" — كما يسميه فرانكو موريتي — باستخدام النماذج الحاسوبية. في كتابه الشهير Distant Reading، دعا موريتي إلى تجاوز القراءة القريبة للنصوص نحو ما سماه “القراءة البعيدة”، أي استخدام أدوات البيانات الكبيرة لتحليل آلاف الروايات دفعة واحدة، من أجل استخلاص تحولات الشكل والسرد في التاريخ الأدبي. لقد أصبحت تلك "القراءة البعيدة" جزءًا من أدواتي عندما أبحث في تطور القص في الرواية المغربية مثلاً، أو في حضور مفردات المقاومة في الشعر العربي الحديث.

لكن، هل كل نص قابل للتفكيك بواسطة الخوارزمية؟ هنا تظهر حدود هذه المنهجية. فالنصوص التي تقوم على «الاستعارة الكونية»، تلك التي يتداخل فيها الواقعي بالميتافيزيقي، والمرئي باللامرئي، لا يمكن إحالتها بالكامل إلى بيانات. كيف يمكن للذكاء الاصطناعي أن يلتقط الهسهسة الشعرية في قصيدة لأدونيس أو رائحة البحر في نص لغسّان كنفاني؟ هذا سؤال وجودي بقدر ما هو معرفي.

مع ذلك، لا يمكن تجاهل التطورات المثيرة في هذا الميدان. ففي العام 2022، قام باحثون من جامعة ستانفورد بتطوير نموذج لتحليل النصوص الأدبية وفق أنماط «التحيز الجندري»، عبر تدريب الذكاء الاصطناعي على آلاف الروايات الغربية. وتبين من خلال الدراسة أن هناك اختلالات في توزيع الصفات الإيجابية والسلبية بين الشخصيات الذكورية والأنثوية، ما أعاد فتح نقاشات حول دور التقنية في تفكيك الإيديولوجيات المتخفية داخل النص.

وأنا، كناقد مغربي، أجد في هذا التحول فرصة وليس تهديدًا. فالذكاء الاصطناعي لا يسرق منا الأدب، بل يُجبرنا على أن نعيد تعريفه. ما هو الأدب في زمن توليد النصوص؟ هل هو كتابة أم قصد؟ وهل يحق لنا أن نمارس النقد على نص لا نعرف من صاحبه: إنسان أم آلة؟ لقد سبق أن حذرنا رولان بارت من “موت المؤلف”، لكننا اليوم نعيش ميلاد مؤلف جديد: خوارزمي، لا ينام، لا ينسى، ولا يكتب إلا إذا طلبنا منه ذلك.

الذكاء الاصطناعي لن يعوض النقد الأدبي، لكنه سيغير بنيته المعرفية. وسنكون مطالبين، نحن أبناء النقد، لا بمقاومته، بل بتدجينه. أن نصنع من الآلة صديقًا معرفيًا، لا خصمًا وجوديًا. وكما يقول بول ريكور: "التأويل ليس نفيًا للنص، بل امتدادٌ له." فهل نمتلك الشجاعة اليوم لنمدّد النص داخل الذاكرة الرقمية؟ هل نستطيع أن نكتب الشعر، ونحلله، في الزمن ذاته؟

لعل الإجابة لا تكمن في الموقف من التقنية، بل في الموقف من «التأويل» ذاته. ففي نهاية المطاف، كل قراءة هي خيانة نبيلة للنص — فلتكن خيانة ذكية إذًا.

0 التعليقات: