في الأيام التي سبقت عيد الأضحى لهذا العام ، اهتز الرأي العام على وقع تقارير صحفية تفجّر فيها ملف خطير طالما دار حوله كثير من الصمت والتكتم: يتعلق الأمر بحسابات مصرفية، عقارات فاخرة، وأموال طائلة يُزعم أن مسؤولين جزائريين رفيعي المستوى – من مدنيين وعسكريين – يخفونها في فرنسا. التحقيقات التي فجّرها الصحفي الفرنسي-الجزائري محمد سيفاوي على قناة فرنسية، ثم نشر لاحقًا تفصيلًا منها في مجلة Ruptures، خلقت ضجة إعلامية داخل الجزائر وخارجها، خصوصًا مع ورود أسماء شخصيات سياسية وعائلية قريبة من الرئيس عبد المجيد تبون وقائد الأركان السعيد شنقريحة.
ذلك الصمت المريب الذي
اختاره النظام الجزائري لم يكن سوى دليل إدانة بحد ذاته، أو هكذا يرى مراقبون. فعوض
أن تتحرك السلطات عبر قنواتها الدبلوماسية والقضائية لمقاضاة الصحفي أمام القضاء الفرنسي،
آثرت اللجوء إلى الاستهزاء، التشكيك، بل وحتى الشتائم، متهمةً سيفاوي بأنه "يفتقر
للمصداقية"، وأنه مجرد أداة في يد "قوى معادية للجزائر".
لكن السؤال الجوهري
الذي لم يجد له الشارع الجزائري جوابًا هو: "إذا كانت الاتهامات باطلة، فلماذا
لا يلجأ النظام إلى القضاء؟"
المفارقة الصارخة تكمن
في أن السفارة الجزائرية في باريس سبق لها أن استعانت بمكتب محاماة فرنسي كبير لملاحقة
معارضين وصحفيين جزائريين في قضايا نشر، من بينهم نفس كاتب هذا المقال. فكيف يمكن تفسير
هذه الانتقائية؟ هل أصبح محمد سيفاوي فوق المحاسبة؟ أم أن ما قاله يمسّ من هم
"أقوى من أن يُمسّوا"؟
الأمر يتجاوز مجرد
رفض الرد، بل يدخل في عمق أزمة ثقة بين المواطن الجزائري ونظامه. فمنذ بداية الأزمة
الدبلوماسية مع فرنسا، رفعت الجزائر خطاب "الكرامة الوطنية" و"السيادة"،
وهاجمت النخب المقيمة في باريس. لكنها – في المقابل – لم تنفِ بشكل قاطع ما نُشر عن
امتلاك أبناء تبون وشخصيات عسكرية ومقربين من السلطة لعقارات وحسابات سرية في فرنسا.
في المقابلة التي أجراها
سيفاوي، وردت أسماء محددة، واتهامات مباشرة. صحيح أنه لم يذكر أرقام حسابات ولا أسماء
البنوك، إلا أنه قدّم سياقًا ومعلومات تسلسلية تنتمي إلى مدرسة التحقيق الصحفي المعتمدة
دوليًا. وهنا تظهر نقطة محورية: إن كانت هذه المعطيات كاذبة، فالمحاكم الفرنسية مفتوحة،
وبمقدور الدولة الجزائرية أن تردع سيفاوي قانونيًا وتُبرئ ذمتها أمام شعبها.
القضاء الفرنسي لا
يتحرك على أساس نوايا سياسية. بل إن رؤساء سابقين للجمهورية الفرنسية مثل نيكولا ساركوزي
وجاك شيراك خضعوا لمحاكمات أمام قضاة مدنيين. فهل نخشى، نحن الجزائريين، من عدالة الجمهورية
الفرنسية أكثر من ساسة باريس أنفسهم؟
ما يهم الجزائريين
اليوم ليس إن كان سيفاوي "موالٍ لإسرائيل" أو "أداة استخبارات أجنبية"،
بل إن كانت معلوماته صحيحة أم لا. فالخيانة الحقيقية ليست في أن يتحدث صحفي عن فساد
محتمل، بل في أن يُتهم مسؤولون بنقل أموال الدولة إلى دولة "عدوة" وفقًا
للخطاب الرسمي، دون أي نفي رسمي أو تحرك قضائي.
هكذا، بدلاً من المواجهة،
يختبئ النظام خلف شعارات فارغة، متهربًا من الإجابة على أسئلة بسيطة ومباشرة: هل يملك
أبناء تبون حسابات مصرفية في فرنسا؟ هل يمتلك قادة عسكريون جزائريون ممتلكات غير مصرح
بها هناك؟ ومن أين جاءت هذه الأموال؟ وهل هي نتاج فساد، أو استغلال نفوذ، أو اختلاس
للمال العام؟
ما يحدث اليوم هو محاكمة
للرأي العام في غياب الخصم. فإن لم يكن هناك كذب فيما كُتب، فالحقيقة فاضحة. وإن كان
كذبًا، فالصمت جريمة أكبر من الكذبة.
في دولة تحترم نفسها،
لا تُترك القضايا المصيرية للجدال في المقاهي، بل تُفصل في ساحات العدالة. فهل يخشى
النظام من فتح هذا الملف لأنه يعرف أن المحكمة قد تكشف ما هو أبشع من الحسابات؟ هل
يعلم أن ما يقال هو قمة جبل جليد يغوص تحت سطح الدولة العميقة؟ أم أن "من يتهمه"
يعرف أكثر مما ينبغي؟
ختامًا، في جمهوريات
القانون، تُقاس قوة الدولة بقدرتها على مواجهة الاتهامات لا بقدرتها على الصمت عليها.
وإن كان سيفاوي كاذبًا، فإن عدم مقاضاته هو عار على مؤسسة تقول إنها تحارب الفساد.
ويبقى السؤال: لماذا
هذا الخوف من المحكمة؟
0 التعليقات:
إرسال تعليق