رغم أن الأخبار الاقتصادية تمسّ جوهر معيشة المواطن، فإنها نادرًا ما تحظى بالاهتمام الواسع الذي تستحقه. في المقابل، ينجذب الرأي العام نحو الفضائح، وصراعات الأجنحة، وحياة الشخصيات العامة، بينما تمر المؤشرات الخطيرة التي ترسم ملامح الأزمة الاقتصادية الصامتة في الجزائر دون مساءلة حقيقية. غير أن الواقع يفرض نفسه بقوة؛ فالعملة الوطنية، الدينار، تُعد المرآة الحقيقية لصحة الاقتصاد، وهي اليوم في حالة تدهور مقلق، تعكس خللاً أعمق يهدد بنية الدولة من الداخل.
الاقتصاد لا يُدار بالشعارات أو بتاريخ النضال السياسي، بل بما يضعه الناس على موائدهم، بما يُنتج ويُصدّر، وبما يتوفر من خدمات وفرص عمل. ومن هذا المنطلق، فإن انهيار الدينار الجزائري – الذي تجاوز عتبة 262 دينارًا مقابل اليورو في السوق الموازية – ليس سوى مؤشر ضمن منظومة من الاختلالات الهيكلية.
المعضلة الأولى تكمن في التدهور الصارخ للميزان التجاري. فبينما تراجعت الصادرات بنسبة 10% خلال 2024، ارتفعت الواردات بـ9%. هذا يعني أن الجزائر تبيع أقل وتشتري أكثر. ومع الارتفاع الديموغرافي (48 مليون نسمة بنهاية 2025)، تتسع الفجوة بين ما يُستهلك وما يُنتج، خصوصًا مع اعتماد البلاد على النفط والغاز كمصدر شبه وحيد للعملة الصعبة، في وقت تعرف فيه أسعار الطاقة انخفاضًا مستمرًا.
الهيدروكربورات، التي تشكل أكثر من 90% من الصادرات الجزائرية، سجلت انخفاضًا بنسبة 31% في قيمتها خلال سنة واحدة فقط. ومع تراجع عائدات النفط والغاز، لا يُقابل هذا الواقع بخطط إنقاذية أو تنويع اقتصادي، بل بعكسه: إنفاق حكومي مفرط، تجاوزت نسبته 72% ما بين 2021 و2024، دون أن يصاحبه نمو حقيقي في الإيرادات.
ولتمويل هذا الإنفاق، لم تلجأ الحكومة إلى إصلاحات، بل إلى استنزاف احتياطات البلاد المالية، وعلى رأسها "صندوق ضبط الإيرادات" الذي أُنشئ عام 2000 لامتصاص صدمات أسعار النفط. هذا الصندوق، الذي كان يحوي ما يعادل 20 مليار دولار، استُنزف بالكامل تقريبًا بين 2023 و2024، في حين تجاوز العجز المالي عتبة 40 مليار دولار، ومن المتوقع أن يتعدى 60 مليارًا في 2025.
التحدي الرابع يكمن في ضعف الاستثمار في البنية التحتية للثروة الطاقية. فحقول النفط والغاز تحتاج إلى صيانة وتحديث دائم، ومع غياب الاستثمارات، انخفض إنتاج النفط بنسبة 6.9% في 2024 مقارنة بالعام السابق، بينما تراجعت صادرات الغاز الطبيعي المسال بـ14.3%، رغم أن الطلب العالمي ما زال قائمًا. لم يُستثمر في إنشاء صناعات تحويلية، ولا في تطوير الصناعات البتروكيميائية التي تمنح قيمة مضافة وتُقلّل من الهشاشة الاقتصادية.
خامسًا، الموازنة العامة لم تُعدَّ على أساس واقعي. فبدل تقليص النفقات مع انخفاض أسعار النفط من 103 إلى 81 دولارًا للبرميل بين 2022 و2024، استمر التضخم في الإنفاق العام، وتجاوزت ميزانية الدولة 125 مليار دولار.
سادسًا، تراجع احتياطي النقد الأجنبي رغم ادعاءات رسمية متفائلة. فبينما وعدت الحكومة باحتياطات تتجاوز 70 مليار دولار، تشير تقارير البنك الدولي إلى أنها لم تتجاوز 63 مليارًا بنهاية 2024. وهذا الانخفاض المزدوج في الاحتياطي وصندوق الإيرادات يشكل جرس إنذار اقتصادي حاد.
أما الاختلال السابع، فيتمثل في الانكماش النوعي للصادرات غير النفطية. فبدل التوجه نحو منتجات صناعية أو تكنولوجية عالية القيمة، ظلت الجزائر تُصدّر سلعًا مرتبطة بأسعار الغاز والنفط، مثل الأسمدة والإسمنت، التي تراجعت بدورها بنسبة 24.2% سنة 2024.
كل هذه المؤشرات تضع الجزائر أمام سيناريوهات كارثية. فزيادة الكتلة النقدية في ظل شُحّ الإنتاج تعني تضخمًا ماليًا متسارعًا. ومع انهيار قيمة الدينار، يتراجع مستوى المعيشة، وتتصاعد نسب الفقر والبطالة، ما يهدد بانفجار اجتماعي غير متحكم فيه.
إنها سبع اختلالات – أو سبع "خطايا اقتصادية" – تقود البلاد نحو خطر التآكل التدريجي لمقدراتها. وإذا استمرت السياسات الحالية في تجاهل الواقع والاستمرار في الإنفاق بلا إنتاج، فإن الجزائر مهددة ليس فقط بالإفلاس المالي، بل بانهيار اجتماعي قد يعصف بما تبقى من استقرارها الداخلي.
0 التعليقات:
إرسال تعليق