في خضم الموجة الرقمية التي تجتاح الصحافة العالمية، وجدت نفسي كمواطن مغربي أتأمل بتوجّس ودهشة في آنٍ واحد دور الذكاء الاصطناعي في استباق الأحداث وصناعة التوجّهات الإخبارية قبل أن تتبلور على أرض الواقع. لم نعد أمام أدوات ذكية تساعدنا في التحرير أو الترجمة، بل أصبحنا نواجه كائنًا رياضيًّا حسابيًّا قادراً على قراءة نبض العالم بدقّة تتخطى أحيانًا منطق الحدث ذاته.
لقد شاهدت مؤخرًا تجربة صحيفة «The Washington Post» مع خوارزميتها الذكية "Heliograf"، التي نجحت منذ عام 2016 في توليد تقارير رياضية وسياسية دون تدخل بشري. لكن ما شدّني أكثر هو استخدامها في ««رصد الاتجاهات»« وليس فقط في إنتاج النصوص. فنحن هنا لا نتحدث عن صحافة مؤتمتة فحسب، بل عن ذكاء يلتهم البيانات من تويتر، غوغل تريندز، وكبريات قواعد البيانات الإخبارية، ليقدّم تصوّرات استباقية لما سيهيمن على حديث العالم في الساعات أو الأيام القادمة.
في السياق المغربي،
ما زالت هذه التقنيات في بداياتها، لكن إشاراتها بدأت تلوح في الأفق، خصوصًا مع استخدام
بعض المنصات الإخبارية المغربية الناشئة لخدمات مثل
«Google
News AI Suggestions» وCrowdTangle».
لقد لاحظت، مثلًا، أن بعض المقالات التي تحقق نسب
مشاهدة عالية ليست بالضرورة تلك التي تتناول أحداثًا كبرى، بل تلك التي صاغت عناوينها
وصورها المصغرة وفقًا لما "تتوقعه" الخوارزميات من رغبات القرّاء. كأن الصحافة
تحوّلت من مرآة للواقع إلى مرآة للرغبة المتوقعة!
ولعل هذا ما ناقشه
«نيكولاس كار» في كتابه "The
Shallows" حين حذّر
من تحويل الذكاء الاصطناعي إلى أداة تُفرغ المحتوى من عمقه مقابل تعظيم الانتشار السريع.
وفي الوقت نفسه، يدفعنا كتاب "Automating
the News" لـ «Nicholas Diakopoulos» إلى التفكير في إيجابيات الذكاء الاصطناعي في الصحافة،
خصوصًا في مجال "التنبؤ الإخباري" الذي صار يشكّل فرعًا مستقلاً داخل غرف
الأخبار الرقمية الكبرى.
أذكر مثالًا حديثًا
وقع في الجزائر: قبل أيام من اندلاع جدل واسع حول انشقاق ضابط في جهاز المخابرات، بدأت
خوارزميات تتبّع الرأي العام تلتقط إشارات دقيقة من تدوينات متفرقة، لم تكن لتلفت نظر
صحفي بشري، لكنها سرعان ما ظهرت في نماذج «predictive trend modeling» التي استعملتها بعض الوكالات الأوروبية. المفارقة
أن الخبر لم يُنشر بعد، لكن المنصات بدأت في إعداد تقارير استباقية عمّا "يمكن
أن يكون موضوعًا ملتهبًا".
هل هو نوع من التنجيم
الرقمي؟ أم أننا أمام أدوات تحليلية لا تختلف في جوهرها عن قراءات مراكز الدراسات الاستراتيجية،
فقط بوتيرة أسرع ودقة خوارزمية أعلى؟
من وجهة نظري، ما يميّز
هذا التحول ليس فقط القدرة على التنبؤ، بل «إعادة تشكيل مفهوم الزمن الصحفي» نفسه.
فالزمن الذي كان يقيس المسافة بين وقوع الحدث ونشر الخبر، صار الآن يدور حول توقّع
«ما قد يكون خبراً» حتى قبل أن يقع.
لكن مع كل هذا الإعجاب،
لا أنفي وجود القلق: هل ستُختزل الصحافة إلى أداة ترندات؟ ماذا عن الأخبار المحلية،
الأقل ضجيجًا؟ هل ستختفي لصالح ما "تراه" الخوارزميات أكثر إثارة؟
في إحدى الندوات الرقمية
التي تابعتها مؤخرًا بتنظيم من
Reuters
Institute for the Study of Journalism،
قال أحد المتخصصين: "ما لا يظهر على الرادار الخوارزمي، لا يكتب له الحياة في
عصر الصحافة المؤتمتة". عبارة مرعبة في ظاهرها، لكنها تحمل شيئًا من الحقيقة التي
بدأت تفرض نفسها تدريجيًا.
لذلك، أجد نفسي كمغربي،
وككاتب، مطالبًا بمراجعة علاقتي بهذه التكنولوجيا. لا أريد أن أكون فقط تابعًا لترندات
متوقّعة، بل راغبًا في استخدام هذا الذكاء لتوسيع أفق القارئ لا اختزاله.
الذكاء الاصطناعي في
التنبؤ بالأخبار ليس شيطانًا ولا ملاكًا. هو أداة، لكنها أداة تعكسنا. تعكس هواجسنا،
رغباتنا، وأحيانًا انحيازاتنا التي لا نعترف بها. وعلينا أن نتساءل باستمرار: من يوجّه
من؟ هل نكتب لأننا نؤمن بما نكتبه؟ أم لأن الخوارزمية توقعت أن هذا ما سيثير اهتمام
الجمهور؟
هذا السؤال وحده كافٍ
ليقلب موازين "السبق الصحفي" رأسًا على عقب.
0 التعليقات:
إرسال تعليق