الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الاثنين، يونيو 23، 2025

الجزائر وقافلة الصمود: قمع الداخل وتناقض الشعارات: عبده حقي


لم تعد الممارسات القمعية في الجزائر تقتصر على قمع الاحتجاجات أو تكميم الأفواه داخل المدن، بل امتدت لتطال حتى أولئك المواطنين الذين يرفعون راية القضايا الإنسانية خارج حدود الوطن. في مشهد يُجسّد مفارقة صارخة بين الخطاب الرسمي والممارسة الواقعية، أقدمت السلطات الجزائرية على التحقيق مع مواطنيها العائدين من المشاركة في "قافلة الصمود"، وهي قافلة تضامنية شعبية هدفها المعلن دعم الفلسطينيين في قطاع غزة المحاصر.

بحسب ما أوردته صحيفة "المرصد" الليبية، فإن المشاركين في هذه القافلة، التي ضمت عشرات الحافلات والسيارات، خضعوا لتحقيقات أمنية مطولة دامت 13 ساعة كاملة عند منفذ "أم الطبول" الحدودي بين الجزائر وتونس، قبل أن يُسمح لهم بالعودة إلى بلادهم. هذا السلوك الأمني الصارم، الذي يكاد يرقى إلى التنكيل المعنوي، يطرح أكثر من علامة استفهام حول حقيقة الموقف الجزائري الرسمي من القضية الفلسطينية، وحول مدى احترامه لحرية التعبير والعمل المدني داخل حدوده.

القافلة لم تكن مسلحة، ولم تكن تنقل معدات عسكرية، بل كانت مبادرة مدنية سلمية شارك فيها مواطنون جزائريون بوسائلهم الخاصة، منطلقين من إيمانهم العميق بعدالة القضية الفلسطينية وضرورة كسر الحصار المضروب على قطاع غزة منذ سنوات. ومع ذلك، عوملوا كمتهمين محتملين، لا كمناضلين متطوعين، وهي معاملة تعكس ذهنية أمنية جامدة ترى في كل حراك شعبي تهديدًا لبنيان السلطة، حتى وإن كان هذا الحراك موجهًا نحو الخارج.

الأدهى من ذلك أن هذه الإجراءات القمعية تتناقض صراحة مع ما تروّج له الجزائر رسميًا من دعم غير مشروط لفلسطين و"مواقف تاريخية" في نصرة قضايا التحرر. فكيف لدولة تدّعي أنها في طليعة المدافعين عن فلسطين أن تُخضع أبناءها للمساءلة لمجرد أنهم عبروا عن تضامن فعلي خارج الحدود؟ أليس الأجدر بها أن تكرّمهم؟ أم أن الدعم يجب أن يمر حصريًا عبر قنوات الدولة وحدها، في مشهد يعيد إلى الأذهان مركزية السلطة وإقصائها لأي مبادرة شعبية مستقلة؟

هذا السلوك يعيدنا إلى أزمة أعمق تعيشها الجزائر منذ سنوات، وهي أزمة الثقة بين النظام الحاكم والمجتمع المدني، وأزمة الفهم الضيق لمفهوم المواطنة والالتزام الإنساني. فبدل أن تعزز الدولة ثقافة الانخراط المدني والتضامن الإنساني، تزرع الشك في نوايا مواطنيها وتضيق عليهم الخناق، حتى في أفعال الخير.

وليس مستغربًا أن يأتي هذا التضييق في سياق عام يتسم بتزايد عسكرة الحياة العامة في الجزائر، حيث تُجابه الاحتجاجات السلمية بالاعتقالات، ويُلاحق الصحفيون والنشطاء تحت ذرائع فضفاضة كـ"تهديد الوحدة الوطنية" أو "الإضرار بالمصالح العليا للدولة". وفي ظل هذه الأجواء، يصبح من الطبيعي أن يُعامل حتى المتضامنون مع غزة كمشتبه فيهم، لا كمواطنين يمارسون حقهم الأخلاقي والإنساني.

إن ما حدث عند "أم الطبول" هو تذكير صارخ بأن المشكلة في الجزائر ليست في الشعارات، بل في مَن يحتكر حق إطلاقها وتفسيرها. فالدعم لفلسطين، إذا لم يمر عبر "النافذة الرسمية"، يصبح فعلًا مشبوهًا، ويُقابل بالتحقيق والتفتيش والإذلال. وهي مفارقة مؤلمة تُظهر كيف تحوّلت حتى القضايا العادلة إلى رهينة للصراعات الداخلية على السلطة والشرعية.

في النهاية، يجب التأكيد أن ما يحتاجه الشعب الجزائري ليس فقط خطابًا سياسيًا عن فلسطين، بل احترامًا فعليًا لحقه في التعبير والمبادرة والعمل المدني الحر. فدعم غزة لا يكون بالشعارات الجوفاء، بل بتكريم من ضحى براحته وزمنه وجهده لنقل صوت إنساني حر، لا بتوقيفه عند المعابر والتحقيق معه كما لو كان متورطًا في مؤامرة.

قافلة الصمود كانت امتحانًا بسيطًا لحقيقة الالتزام الرسمي بالحرية والتضامن… امتحان رسبت فيه السلطة مرة أخرى.

0 التعليقات: