في كل دورة جديدة من دورات لجنة تصفية الاستعمار بالأمم المتحدة، تخرج علينا جبهة البوليساريو بنفس الخطاب المستهلك والمفردات التي لم تعد تقنع أحداً، لتؤكد "مواصلة النضال التحرري" و"التمسك بالاستقلال" و"استعادة السيادة"، وكأن عقارب الزمن توقفت منذ سبعينيات القرن الماضي. ما صرح به مؤخرًا سيدي محمد عمر، ممثل الجبهة لدى الأمم المتحدة، لا يعدو أن يكون إعادة إنتاج مألوف لخطاب سياسي يعيش خارج التاريخ، وخارج منطق التحولات الإقليمية والدولية، بل وخارج إرادة الساكنة ذاتها.
ففي زمن تحوّلت فيه قضية الصحراء المغربية من نزاع مفتعل إلى ورش سياسي متقدّم في ظل مبادرة الحكم الذاتي التي حظيت بدعم دولي واسع، ما تزال البوليساريو تروّج لمفاهيم "الاستعمار" و"التحرير" كما لو أن المغرب قوّة أجنبية في أرض غريبة. إنها مفارقة مضحكة ومبكية في آنٍ معًا: جبهة تطالب بـ"الحرية" في أرضٍ يرتبط سكانها تاريخيًا، واجتماعيًا، وثقافيًا، بالمملكة المغربية، وتدّعي تمثيلهم رغم افتقادها لأي سند ديمقراطي أو شرعي.
وفي تصريحاته الأخيرة، يحاول ممثل الجبهة أن يُضفي طابعًا دوليًا على قضية باتت معزولة دوليًا، حيث يتحدث عن دعم مزعوم من دول العالم، دون أن يجرؤ على تسميتها أو الإشارة إلى وزنها الجيوسياسي الحقيقي. فهل يُعقل أن تكون حفنة من الدول الصغيرة أو المنظمات الممولة جزائريًا مرآةً لما تسميه "إجماعًا دوليًا"؟ الواقع يقول شيئًا آخر تمامًا: أكثر من 40 دولة دعمت علنًا مبادرة الحكم الذاتي، والعديد منها سحب اعترافه بالجمهورية الوهمية. بل إن الدول المؤثرة في مجلس الأمن تعتبر الخطة المغربية قاعدة جدية وواقعية للحل.
أما الحديث عن "انتهاكات حقوق الإنسان"، فهو من أكثر الملفات التي تتاجر بها البوليساريو في المحافل الدولية، رغم أنها الجهة الأقل أهلية للحديث عن هذا الموضوع. فمخيمات تندوف، الخاضعة لسيطرة عسكرية جزائرية ـ بوليساريوية مشتركة، تفتقر لأبسط مقومات الحرية: لا انتخابات، لا إعلام مستقل، لا جمعيات حقوقية محايدة، بل تقارير أممية صريحة تتحدث عن قمع المعارضين وسوء المعاملة وتجنيد الأطفال. فكيف لمن لا يحترم حقوق شعبه أن يكون صوتًا مدافعًا عن "الحقوق" في منطقة أخرى؟
إن تمسك البوليساريو بخطابها القديم لا يعكس سوى عجزها عن مواكبة الواقع. فهي لا تملك مشروعًا سياسيًا حقيقيًا سوى التبعية الكاملة للنظام الجزائري، الذي يستغل القضية كورقة ضغط جيوسياسية في صراعه الإقليمي مع المغرب. ولعل تكرار ممثل الجبهة لاتهامات ضد "دولة الاحتلال المغربي" و"العرقلة المغربية لعملية السلام" هو محاولة لتغطية الفشل الداخلي للجبهة، وتعليق عجزها السياسي على شماعة الآخر.
أما بخصوص حديثه عن "ركود العملية السياسية بسبب تردد بعض أعضاء مجلس الأمن"، فهو اختزال ساذج للمشهد الدولي، لأن التردد الحقيقي مصدره الفشل المتكرر للجبهة في تقديم مقترح سياسي مقنع، وعدم قدرتها على التطور إلى كيان مدني ديمقراطي يحظى بثقة الصحراويين أنفسهم. بل إن البوليساريو لا تقبل بأي حل لا يتضمن الانفصال الكامل، ما يجعلها في موقع الرفض الدائم، وهو ما يدفع المجتمع الدولي إلى اعتبار المبادرة المغربية للحكم الذاتي الخيار الأكثر واقعية.
في نهاية المطاف، لا يمكن لجبهة البوليساريو أن تستمر في بيع الأوهام دون تكلفة. الزمن تغيّر، والتوازنات الدولية والإقليمية تغيّرت، وإرادة الصحراويين تتجلّى في المشاركة السياسية، والتنمية المحلية، والانخراط في المشروع المغربي الشامل. أما من يصرّ على البقاء رهينة في تندوف، أسيرًا لخطاب الستينيات، فإنه يراهن على سراب، ويقود من تبقى له من الأتباع نحو عزلة أكبر ونهاية محتومة.
إن الاستقلال الحقيقي اليوم لا يكمن في الانفصال، بل في الانعتاق من الوصاية الجزائرية، وفي قبول حلّ يحفظ كرامة الجميع، ويضمن حقوق الساكنة، ويؤسس لسلام عادل وشامل. ومبادرة الحكم الذاتي المغربية ليست مجرد مقترح سياسي، بل فرصة تاريخية ضيّعتها البوليساريو مرارًا، ولا يبدو أنها تملك من الحكمة ما يكفي لتدارك ذلك قبل فوات الأوان.
0 التعليقات:
إرسال تعليق