الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الثلاثاء، يونيو 10، 2025

تخصيص سياحي وهمي أم عجز اقتصادي مقنّع؟ عبده حقي


في خضم الخطاب الرسمي المتناقض، والوعود التي لا تجد طريقها إلى التنفيذ، تبرز "المنحة السياحية الجزائرية" الموعودة كمثال صارخ على التناقض بين الشعارات الاقتصادية والسياسات الواقعية. فبعد أن أعلنت الرئاسة الجزائرية في ديسمبر 2024 رفع قيمة هذه المنحة إلى 750 يورو سنوياً لكل مواطن بالغ و300 يورو للقاصرين، فوجئ الرأي العام بتعثر تطبيق هذا القرار لأسباب لم تُكشف رسمياً، لكن يمكن قراءتها ضمن سياق أكبر من التحديات المالية التي تعصف بالبلاد.

وزير المالية عبد الكريم بوزريد، خلال جلسة مساءلة في البرلمان، حاول التملص من المسؤولية محيلاً الموضوع إلى "صلاحيات بنك الجزائر". إن هذا الرد، في ظاهره تقني، لكنه في عمقه يكشف عن استراتيجية تهرب ممنهجة، هدفها إخفاء العجز المالي الحقيقي الذي يمنع الدولة من الإيفاء بتعهداتها.

إن تطبيق هذه المنحة يتطلب تعبئة مالية ضخمة تصل إلى قرابة 4 مليارات دولار من احتياطي العملة الصعبة، وهو ما لا يبدو متاحاً اليوم بالنظر إلى الهشاشة التي تعاني منها المالية العمومية الجزائرية. فاحتياطات النقد الأجنبي تآكلت بشكل مقلق خلال السنوات الأخيرة بسبب التراجع المستمر في مداخيل المحروقات، واعتماد الاقتصاد الجزائري شبه الكلي على الريع النفطي دون نجاح أي إصلاح هيكلي حقيقي.

الأخطر من ذلك، أن الحكومة لا تملك الجرأة السياسية للاعتراف بهذه الأزمة. فبدلاً من المصارحة، تختار اللجوء إلى أساليب التضليل، مثل تقديم وعود بدون جدول زمني، أو تحميل جهات تقنية مسؤولية قرارات سياسية بامتياز. وهنا تبرز المعضلة الجوهرية: غياب الشفافية في إدارة المال العام وتغليب الاعتبارات الشعبوية على القرارات الاقتصادية الرصينة.

في الواقع، هذه الأزمة ليست معزولة عن المشهد الاقتصادي العام في الجزائر، بل تمثل انعكاساً دقيقاً له. فالنظام الاقتصادي لا يزال يراوح مكانه بين نموذج ريعي غير منتج، وشعارات إصلاح لا تجد طريقها إلى التنفيذ. وعوض أن تُوظف أموال الدولة في تحفيز الاقتصاد المنتج أو دعم الطبقات الهشة، تستهلكها أجهزة الدولة في سياسات دعم سطحية، غالباً ما تكون بدون أثر ملموس أو دائم.

في هذا السياق، يمكن مقارنة التجربة الجزائرية بتجارب دول أخرى كانت في وضعية اقتصادية مماثلة، لكنها اختارت طريق الشفافية والإصلاح البنيوي. فعلى سبيل المثال، اعتمدت بعض الدول على برامج تحويل هيكلي قوية، نجحت في تقليص الاعتماد على الموارد الطبيعية وتنمية قطاعات بديلة مولّدة للثروة وفرص العمل، في حين ظل الخطاب الرسمي الجزائري أسير الشعارات السياسية والانشغال بصراعات إقليمية على حساب التنمية الوطنية.

يتساءل الجزائريون اليوم، بمرارة، عن مصداقية الدولة في تنفيذ وعودها، خاصة وأن هذه المنحة كانت بالنسبة لكثيرين بارقة أمل في ظل انهيار الدينار وتراجع القدرة الشرائية. ومع تأجيل تطبيقها، بل والتهرب حتى من تحديد موعد واضح لذلك، يجد المواطن نفسه في مواجهة دولة تبدو عاجزة حتى عن إدارة أزمة صرف صغيرة دون أن تنكشف عورتها الاقتصادية.

في النهاية، لا يتعلق الأمر بمنحة سفر فحسب، بل بفقدان ثقة متزايد في مؤسسات الدولة. وفي غياب إصلاح اقتصادي شجاع وحوكمة شفافة، فإن مثل هذه السياسات لن تكون سوى مسكنات موضعية، لا توقف نزيف الأزمة، بل تؤجله حتى إشعار آخر.

ما لم تعترف السلطات الجزائرية بحقيقة المأزق الاقتصادي وتباشر إصلاحاً حقيقياً يبدأ من ترشيد النفقات وإعادة هيكلة الاقتصاد الوطني، فإن وعوداً مثل "المنحة السياحية" ستظل حبراً على ورق، وصدى لمشهد أوسع من التضليل الرسمي الذي يدفع ثمنه المواطن البسيط يوماً بعد يوم.

0 التعليقات: