أنا المغربي الذي لطالما تابع نشرة الثامنة باحترام، وراقب المراسلين وهم يركضون خلف الحدث كما يركض الصياد خلف طيف غزالة. لكن شيئًا ما تغيّر. لم يعد التلفاز هو الواجهة الوحيدة للحقيقة، ولم تعد الصحف تطبع الوقائع وحدها بالحبر، بل أصبح "الفيسبوك" هو من يسبق الجميع، و"تويتر" هو من يكتب العناوين قبل أن تُراجعها لجان التحرير. إنها لحظة انتقال غير معلنة، لكنها هائلة، حيث أضحت وسائل التواصل الاجتماعي لا تنقل الخبر فحسب، بل تصوغه، تُعيد تركيبه، وتمنحه نبرة سياسية، أو حتى سخرية لاذعة.
نحن، أبناء هذا التحول الرقمي، نشهد كيف
يتحوّل المواطن العادي إلى مراسل دون ترخيص، وكيف يُمكن لفيديو لا يتجاوز ثلاثين
ثانية أن يُشعل نقاشًا سياسيًا يطغى على الصحف لأيام. لكني أتساءل بقلق: من يتحكم
فعليًا في هذا السيل المتدفق من الأخبار؟ هل نحن فعلاً من نصوغ الرواية؟ أم أننا،
دون أن ندري، نعيد إنتاج ما تم برمجته في مختبرات الذكاء الاصطناعي، أو ما تم
تسريبه عبر خوارزميات لا ترى فينا سوى "نقرات" و"إعجابات"؟
في كتابه "Manufacturing Consent"، أوضح نعوم تشومسكي كيف أن الإعلام التقليدي يُدار من قبل شبكات
معقدة من السلطة والمال، لكن ماذا عن الإعلام الجديد؟ ألسنا اليوم أمام نسخة أكثر
تداخلاً، حيث يتم إنتاج "الإجماع" الافتراضي من خلال تضخيم مواضيع معينة
وتجاهل أخرى؟ في خضم الحرب الروسية الأوكرانية، مثلاً، لاحظت كيف تم التضامن مع
أوكرانيا إلكترونيًا بوتيرة مذهلة، بينما صمتت الشبكات ذاتها عن مأساة غزة في
لحظات مشابهة. فهل يعكس هذا وعينا الجماعي؟ أم هي نتيجة تدخل غير مرئي في
خوارزميات الرؤية؟
في المغرب، بات واضحًا أن وسائل التواصل
الاجتماعي أصبحت ساحة المعركة الجديدة، من تسريبات حول قرارات حكومية قبل صدورها
رسميًا، إلى حملات مقاطعة تبدأ من تغريدة عابرة وتنتهي بتأثير اقتصادي فعلي. لم
تعد المعلومة بحاجة إلى وكالة أنباء، بل إلى هاتف ذكي وجرأة على النشر. هذا
التحوّل لا يخلو من الإيجابية، فهو يمنح صوتًا لمن لا منبر له، ويفضح الفساد
أحيانًا قبل أن تلتقطه عدسات الصحفيين. لكن في المقابل، أرى كم هو سهل أن تُنشر
إشاعة وتتحوّل إلى حقيقة افتراضية، خصوصًا حين تتعطل آليات التحقق وتغيب المهنية
الرقمية.
لقد كتب زيغمونت باومان، في تأملاته حول
"الحداثة السائلة"، عن هشاشة المعايير وتآكل الحدود بين الحقيقة والزيف.
هذا ما أعيشه الآن كمغربي يتنقّل بين المنصات. أحيانًا، أصدق ما أقرأ في
"فايسبوك" أكثر مما أسمعه في نشرات الأخبار، وأحيانًا أخرى أضطر للعودة
إلى مصادر متعددة فقط لأتأكد من واقعة بسيطة. إنها لحظة ازدواجية معرفية بامتياز:
نحن نعرف أكثر، لكننا نثق أقل.
ولا يمكنني إغفال كيف تغيّر دور الصحفي
المغربي في هذا السياق. لقد بات مُطالبًا ليس فقط بكتابة الخبر، بل بمنافسته في
سرعة الانتشار، بتقديمه في قالب جذاب، وبحماية نفسه من سيل الردود والتعليقات التي
قد تهدم مصداقيته في لحظة. وهنا أستذكر أطروحة ميشيل فوكو عن "سلطة
الخطاب"، إذ لم تعد هذه السلطة حكرًا على المؤسسات، بل أصبحت موزعة بين
المستخدمين، والمعلقين، وحتى "المؤثرين" الذين لا يمتلكون أدنى تأهيل
إعلامي.
إن سرد الخبر لم تعد عملية حيادية أو تقنية، بل صارت شأنًا
سياسيًا، اجتماعيًا، ووجوديًا أيضًا. كل خبر ننشره على صفحاتنا هو اختيار ضمني:
نقرر ما يستحق أن يُرى، وما يُدفع إلى الظل. ومن هنا، فإننا نصبح، شاء من شاء،
صناع السردية الجماعية، حتى وإن كنا نتحرك داخل نظام رقمي تحكمه الشركات الكبرى
أكثر مما تحكمه الديمقراطيات.
وفي هذا المشهد المتداخل بين النوايا
والخوارزميات، أجد نفسي مضطرًا لإعادة التفكير في علاقتي بالمعلومة، بالتحقق،
وبالزمن. فالأخبار، كما تعلمنا سابقًا، كانت تُطبخ على نار هادئة، تنضج في غرفة
التحرير، وتُقدّم في أطباق مرقمة. أما الآن، فهي تُرمى فينا مثل شرارات، علينا أن
نختار أيها نُطفئ، وأيها نترك تحرق.
أكتب هذا المقال وأنا أراقب خبرًا جديدًا
يتصدر "الترند"، وأتساءل: هل هو حقيقي؟ أم أنه مجرد سردية افتراضية أخرى
في زمن باتت فيه الحقيقة لا تُروى، بل تُصوّر وتُشارك قبل أن تُفهم؟
أجل، نحن نعيش في عصر لا يسأل فيه الناس: ماذا حدث؟ بل يسألون: أين رأيته؟ والفرق بين السؤالين، هو الفارق بين صحافة الأمس،
وشبكات اليوم.
0 التعليقات:
إرسال تعليق