الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الخميس، يوليو 10، 2025

يوميات السينغال : المشترك الثقافي المغربي في قلب داكار:عبده حقي


عندما يسافر الإنسان خارج حدود وطنه، لا يذهب فارغ اليدين. يحمل معه رائحة ترابه، وأصوات الحارات القديمة، وطعم الكسكس في ظهيرة الجمعة. وفي العاصمة السنغالية داكار، يلوح حضور المغاربة في تفاصيل قد تبدو صغيرة، لكنها تنبض بدفء الانتماء وحنين الذاكرة. لم يكن الأمر مقتصرًا على الاستقرار أو التجارة فقط، بل تجاوز ذلك إلى نوع من *التمغْرُب* الثقافي، حيث تتسلل ملامح الحياة المغربية إلى المشهد الحضري الإفريقي، فتصبح داكار، جزئيًا، امتدادًا ناعمًا للمغرب في غرب القارة.

ما يلفت الانتباه بدايةً هو مشهد بعض الرجال وهم يرتدون الجلباب المغربي الأنيق، سواء في الشارع أو في أماكن العمل، أو خلال المناسبات الدينية. ليس هؤلاء بالضرورة من أبناء الجالية المغربية، بل بينهم سنغاليون تأثروا بهذه المظاهر الحضارية وارتدوها كنوع من الإعجاب أو حتى الانتماء الرمزي. الجلباب هنا لا يؤدي وظيفة اللباس فقط، بل يرمز إلى هوية متجذرة، وإلى علاقة تاريخية عميقة بين المغرب والسنغال، علاقة تشربت الروح الصوفية من مدرسة تيجانية واحدة، وتقاسمت منابر التعليم الإسلامي، وأسواق القوافل التجارية.
في شارع محمد الخامس، أحد أكثر الشوارع نشاطًا في داكار، تصطف المحلات التجارية التي يديرها مغاربة قدموا في الأصل كسياح، ثم أغرتهم أجواء المدينة، فأقاموا مشاريعهم الصغيرة والمتوسطة. بعض هذه المحلات لا تكتفي بعرض البضائع المغربية من جلابيب وقفاطين وأحذية جلدية تقليدية (البلغة)، بل تحاكي في تصميمها الداخلي الروح المغربية، بألوان الفسيفساء الزرقاء والبيضاء، والمصابيح النحاسية، والموسيقى الأندلسية الخفيفة التي تتسلل من مكبر صوت صغير كأنها تستدعي فاس أو مراكش إلى هذا الحي السنغالي.
أما الطابع المغربي في المشهد الغذائي، فهو يظهر بشكل خاص داخل بعض المطاعم اللبنانية الفاخرة، والتي وجدت في المطبخ المغربي عنصر جذب لا يمكن تجاوزه. في داكار، صار من المألوف أن تجد في قائمة الطعام بمطعم لبناني أطباقًا مغربية مثل الطاجين، والحريرة، والكسكس بلحمه أو بدجاجه، بل حتى “البسطيلة” التي تجمع بين الحلو والمالح في مزيج قلّ نظيره في فنون الطبخ. هذا التلاقح لا يمثل فقط التعاون بين الجالية المغربية ونظيرتها اللبنانية، بل يكشف عن رغبة داكارية في تنويع الذوق والانفتاح على الموروث المغاربي، خصوصًا أن العديد من السنغاليين زاروا المغرب، أو لديهم أفراد من العائلة درسوا في مدنه.
الطابع المغربي في داكار لا يقتصر على ما يُرى أو يُؤكل. هناك نوع من الإحساس الرمزي بالحضور، تجسده أسماء المحلات (مثل "مراكش"، "الرباط"، "دار فاس")، والديكور الداخلي في الصالونات التجميلية المغربية التي يقصدها نساء وسيدات أعمال سنغاليات، حتى يتمتعن بما يسمى “التدليك المغربي” أو “الحمام البلدي”، وهي طقوس باتت تُطلب بلهفة كما لو أنها من ضروريات العناية بالنفس في نمط الحياة المعاصر.
وتُظهر هذه الظواهر كيف أصبح الوجود المغربي في داكار أكثر من مجرد هجرة اقتصادية. إنه نوع من التفاعل الثقافي الديناميكي، تغذّيه الروابط الصوفية القديمة، والرحلات العلمية عبر قرون، ومرور الحجاج السنغاليين من المغرب في طريقهم إلى الحجاز. إنها علاقة لا تُختزل في “وجود مغاربة في السنغال”، بل تتجلى في *تسنغل* المغرب، و*تمغْرب* بعض جوانب الحياة اليومية في داكار، بما يكشف عن شراكة روحية وثقافية مستمرة.
من جهة أخرى، تساهم هذه المظاهر الثقافية في رسم صورة ناعمة للمغرب في أعين السنغاليين. فبدل أن تكون العلاقات الرسمية مقتصرة على الدبلوماسية والاتفاقيات، تُترجم على الأرض عبر روائح الطاجين، وأناقة الجلابيب، وسحر الزليج المغربي. وهو ما يعزز قوة “الدبلوماسية الناعمة” التي يعتمدها المغرب، خاصة في إفريقيا جنوب الصحراء.
بل إن هذه المظاهر تُعيد طرح سؤال الهوية في فضاء ما بعد الكولونيالية: ما الذي يجعل الإنسان ينتمي إلى ثقافة أخرى دون أن يشعر بالتهديد؟ الجواب قد يكون في تلك المروحة اليدوية التي تُباع بجوار الجلابيب في محل صغير بشارع الحسن الثاني، وفي ذلك السنغالي الذي يحجز موعدًا أسبوعيًا في صالون “ليلى” المغربي لتجديد نشاطه، وفي طفل صغير يطلب من أمه “كسكسو مغربان” بدل وجبة محلية.
إنها لحظات صغيرة، لكنها تحمل في عمقها نسيجًا من التداخل الثقافي المحترِم، الذي لا يسعى إلى الهيمنة، بل إلى الحوار والتكامل. وهكذا، تصبح داكار ليست فقط مدينة إفريقية ذات طابع فرنكوفوني، بل مسرحًا لتجريب نماذج عيش هجينة، فيها المغربي كما السنغالي، يتقاسمان الخبز والبهار، والحنين إلى حكايات الجدات.
في النهاية، فإن من يتمشى في أزقة داكار لا يحتاج إلى الكثير من المجهود ليشم رائحة المغرب في الهواء، لا فقط من عطر الطعام، بل من دفء العلاقات، وأناقة الجلباب، وبصمة الهوية التي عبرت الصحراء لتقيم، بهدوء، في قلب المدينة.

0 التعليقات: