الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


السبت، يوليو 05، 2025

من المغرب إلى السنغال: رحلة في الذاكرة الإفريقية: عبده حقي


لم تكن زيارتي إلى السنغال مجرد رحلة سياحية عابرة إلى بلد إفريقي، بل كانت غوصاً في عمق القارة السوداء، بحثاً عن جذور مشتركة، عن الوجوه التي تشبهنا، والروح التي تربطنا، والتاريخ الذي يئن بيننا. إنها زيارتي الأولى لبلد إفريقي خارج المغرب، وقد بدأت بشعور مزيج من الدهشة والتوق، كما لو أنني أعود إلى بيت قديم نسيت أنني أنتمي إليه.

كانت أولى محطاتي في داكار هي زيارة بيت الرئيس الشاعر "ليوبولد سيدا سينغور"، ذاك المكان الذي بدا لي وكأنه قصيدة طويلة من الشعر المعلّق على الجدران. دخلت البيت بروح تلميذ يخطو داخل كتاب تاريخ حيّ. تجولت بين الغرف، من غرفة الجلوس إلى غرفة النوم، حتى وصلت إلى الحمّام حيث ما تزال فرشاة أسنان زوجته ومشطها يحتفظان بآثار الحياة اليومية. جلست على كرسيه، أمام مكتبه الخشبي، حيث وُقِّعت قرارات رئاسية وصيغت أبيات شعرية، وهناك، شعرت بأن الأفكار العظيمة لا تحتاج لقصور، بل لمكان يحتضن الصدق.

ثم انتقلتُ إلى "جزيرة غوري»، وهناك لم أعد مجرد زائر، بل أصبحت شاهداً متأخراً على مأساة ممتدة. على بُعد كيلومترات قليلة من سواحل داكار، تقف دار العبيد شاهدةً على قرون من الألم، صامدةً رغم الانكسارات. مشيت داخل الزنازين الضيقة، لمست الجدران التي احتضنت آهات آلاف الأسرى، وتطلعت عبر "باب اللاعودة" حيث كان يُدفع بالأجساد الإفريقية نحو المجهول.

لم تكن الكلمات كافية لوصف ما شعرت به. شيء في الروح انكسر. ورغم ذلك، كان في الوجع جمالٌ مرير: جمال الذاكرة التي لا تموت، والهوية التي لا يمكن أن تُمحى، مهما حاول التاريخ الرسمي تجاهلها.

هروباً من ثقل الذاكرة، توجهتُ إلى «جزيرة نغور»، الصغيرة والملوّنة كأنها لوحة انطباعية. أقلّنا القارب من شاطئ داكار في دقائق معدودة، وإذا بي أمام عالمٍ مختلف: أطفال يركضون بين الأزقة الضيقة، جدران بألوان زاهية، موسيقى تنبعث من النوافذ، ورائحة السمك المشوي تملأ المكان. هناك، شعرت أن إفريقيا لا تُختزل في مأساتها، بل في قدرتها العجيبة على البهجة، رغم الجراح.

في المساء، مشيت على «كورنيش داكار»، البحر أمامي، والمدينة خلفي، وأنا بينهما كأنني ترجمانٌ بين زمنين. صادفت تمثال "النهضة الإفريقية" شامخاً فوق الهضبة، مثل شاهد على حلم لم يكتمل بعد. جلست أتأمل الوجوه المارة، وجدت فيها شيئاً من وجوهنا في الدار البيضاء والرباط وطنجة. كان هناك شيء مشترك، كأن المغاربة والسنغاليين إخوة فرّقتهم الجغرافيا وجمعتهم الروح.

لم تفُتني زيارة «المسجد الكبير في داكار»، ذلك الصرح الذي يجمع بين الزخرفة الإسلامية التقليدية والروح السنغالية المحلية. وجدت طمأنينة غير مألوفة، وسمعت صوت الأذان بلغتين: العربية والولوف. هناك، أحسستُ أن الإسلام في إفريقيا ليس مجرد دين، بل نَفَسٌ ثقافي واجتماعي، متغلغل في تفاصيل الحياة اليومية.

وفي النهاية، زرت «السوق المغربي»، حيث تجلّت صورة المغرب بوضوح: قفاطين، توابل، مجوهرات، وعبارات ترحيب باللغة العربية. ثم تنقلت إلى «سوق سانداغا»، حيث ضربت الفوضى ألوانها بعنف وجمال. باعة ينادون على سلعهم بأصوات مرتفعة، موسيقى تُعزف في الزوايا، وأقمشة بألوان لم أرها في حياتي من قبل. هناك، تعلّمت أن الأسواق ليست فقط أماكن للبيع، بل مرايا تعكس روح الشعوب

غادرت السنغال بقلب ممتلئ. لقد عشت لحظات شعرية، وأخرى تاريخية، وتعلمت أن إفريقيا لا تُكتشف من الصور النمطية، بل من العيون التي تبتسم، والذاكرة التي تُروى، والروح التي تحتمل.

كانت هذه الرحلة أكثر من زيارة، كانت لحظة تصالح مع القارة التي ننتمي إليها، ومع ماضٍ نحتاج أن نفهمه حتى نبني مستقبلاً لا يُكتب لنا فيه دور المتفرج، بل الفاعل، الشريك، الحالم.

 

0 التعليقات: