الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الثلاثاء، يوليو 09، 2024

مواقف دول المغرب الكبير من فوز تحالف اليسار الفرنسي في الانتخابات التشريعية 2024: عبده حقي


يمثل فوز اليسار الفرنسي في الانتخابات التشريعية لعام 2024 تحولا كبيرا في المشهد السياسي الفرنسي. ولا يقتصر هذا التغيير على آثار داخلية فحسب، بل له تداعيات دولية أيضًا، خاصة بالنسبة لبلدان منطقة المغرب الكبير – المغرب والجزائر وتونس وليبيا وموريتانيا. تاريخياً، شاركت دول المغرب الكبير في علاقات معقدة ومتعددة الأوجه مع فرنسا، تضرب بجذورها في التاريخ الاستعماري، والعلاقات الاقتصادية، والتبادلات الثقافية. وقد أثار انتصار اليسار في فرنسا مجموعة من ردود الفعل من دول شمال إفريقيا، مما يعكس رؤاهاالسياسية المتنوعة، ومصالحها الاقتصادية، وديناميكياتها الاجتماعية
.

إن علاقة منطقة المغرب الكبير بفرنسا متأثرة بشدة بالماضي الاستعماري. فقد كانت الجزائر والمغرب وتونس وموريتانيا مستعمرات فرنسية، حيث عانت الجزائر من حرب استقلال وحشية بشكل خاص من عام 1954 إلى عام 1962. وقد ترك هذا التاريخ المشترك بصمة دائمة على العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية بين هذه البلدان وفرنسا. على مر السنين، حافظت فرنسا على وجود كبير في المنطقة من خلال الاستثمارات الاقتصادية والتبادلات الثقافية والنفوذ السياسي. وقد أثار الانتصار الأخير لتحالف اليسار الفرنسي، المعروف بسياساته التقدمية وتأكيده على حقوق الإنسان، تساؤلات حول كيفية تطور هذه الروابط التاريخية.

وكان رد فعل المغرب على فوز اليسار الفرنسي متفائلاً بحذر. وحافظت الحكومة المغربية، تحت حكم الملك محمد السادس، على علاقة مستقرة ووثيقة نسبيا مع فرنسا. إن تركيز اليسار على حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية ينسجم مع الإصلاحات الجارية في المغرب، وخاصة في مجالات مثل حقوق المرأة والتنمية الاقتصادية. ومع ذلك، هناك مخاوف بشأن موقف اليسار من الصحراء المغربية، وهي قضية خلافية بالنسبة للمغرب. وقد دعم اليسار الفرنسي تاريخياً حق الشعوب في تقرير مصيرها، الأمر الذي قد يؤدي إلى توتر العلاقات الدبلوماسية.

وفي الجزائر، كانت الاستجابة أكثر تعقيدا. تتمتع البلاد بتاريخ مضطرب مع فرنسا، تميز بحرب الاستقلال الوحشية والمناقشات المستمرة حول الذاكرة التاريخية والتعويضات. وأعربت الحكومة الجزائرية، بقيادة الرئيس عبد المجيد تبون، عن موافقتها الحذرة على فوز اليسار الفرنسي، على أمل أن يؤدي ذلك إلى علاقة ثنائية أكثر توازنا واحتراما. يتماشى تركيز اليسار على العدالة الاجتماعية مع الإصلاحات الداخلية الأخيرة في الجزائر والتي تهدف إلى الحد من عدم المساواة وتعزيز حقوق الإنسان. ومع ذلك، لا تزال هناك شكوك حول مدى استعداد فرنسا لمواجهة ماضيها الاستعماري بشكل كامل.

وكان رد فعل تونس إيجابيا بشكل عام. باعتبارها دولة شهدت ثورتها الخاصة في عام 2011، والتي أدت إلى التحول نحو الديمقراطية، ترى تونس في انتصار اليسار الفرنسي فرصة لتعزيز القيم الديمقراطية وحقوق الإنسان. وقد رحب الرئيس قيس سعيد بالتغيير، متوقعًا دعمًا أكبر للتعزيز الديمقراطي المستمر والتحديات الاقتصادية في تونس. وينظر إلى التزام اليسار بالتعاون الدولي والمساعدات التنموية على أنه دفعة محتملة للاقتصاد التونسي، الذي كان يعاني في السنوات الأخيرة.

أما ليبيا، المنقسمة حاليا وتواجه صراعا أهليا طويل الأمد، فقد كان رد فعلها أكثر صمتا. وينظر إلى السياسة الخارجية التي ينتهجها اليسار الفرنسي، والتي تركز على الدبلوماسية وحل الصراعات، باعتبارها تحولاً إيجابياً. ومع ذلك، ونظراً للمشهد السياسي المجزأ في ليبيا، لا يوجد موقف موحد بشأن هذه القضية. ولدى الفصائل المختلفة توقعات مختلفة، حيث يأمل البعض في زيادة المشاركة الدبلوماسية والبعض الآخر يشعر بالقلق من التدخل الأجنبي. ويُنظر إلى انتصار اليسار على أنه حافز محتمل لتجديد الجهود نحو السلام والاستقرار في ليبيا.

وكان رد فعل موريتانيا يتسم بالتفاؤل الحذر. وترى البلاد، التي كانت تتحرك تدريجياً نحو حكم أكثر ديمقراطية ومعالجة قضايا حقوق الإنسان، توافقاً محتملاً مع قيم اليسار الفرنسي. وأعرب الرئيس المعاد انتخابه مؤخرا محمد ولد الغزواني عن أمله في أن تدعم الحكومة الفرنسية الجديدة جهود موريتانيا في مجال التنمية الاقتصادية والإصلاحات الاجتماعية. ويحظى التركيز على حقوق الإنسان وتدابير مكافحة الفساد بالترحيب بشكل خاص، نظرا للتحديات التي تواجهها موريتانيا في هذه المجالات.

إن العواقب الاقتصادية المترتبة على انتصار اليسار الفرنسي بالنسبة لبلدان المغرب الكبير كبيرة. تعد فرنسا شريكًا تجاريًا ومستثمرًا رئيسيًا في المنطقة، ومن الممكن أن يكون للتغيرات في السياسة الاقتصادية الفرنسية تأثيرات كبيرة.

ومن الممكن أن تؤدي السياسات الاقتصادية التي ينتهجها اليسار الفرنسي، والتي تؤكد على العدالة الاجتماعية والاستدامة البيئية، إلى تحولات في أنماط التجارة والاستثمار. وبالنسبة للمغرب وتونس، هناك تفاؤل بأن زيادة الاستثمار الفرنسي في التكنولوجيات الخضراء والتنمية المستدامة يمكن أن يعزز اقتصادهما. وتراقب الجزائر، التي تتمتع باحتياطيات كبيرة من النفط والغاز، عن كثب لترى كيف يمكن للسياسات البيئية التي ينتهجها اليسار الفرنسي أن تؤثر على تجارة الطاقة.

ويُنظر إلى التزام اليسار بزيادة مساعدات التنمية بشكل إيجابي في جميع أنحاء المنطقة. وتأمل تونس وموريتانيا على وجه الخصوص زيادة الدعم المالي لمشاريعهما التنموية. ويمكن أن تكون هذه المساعدات حاسمة في معالجة الفوارق الاقتصادية وتعزيز النمو المستدام. ومع ذلك، هناك مخاوف بشأن شروط هذه المساعدات، خاصة إذا كانت مصحوبة بمتطلبات صارمة تتعلق بالحكم وحقوق الإنسان.

الهجرة هي قضية حاسمة أخرى. تعتبر بلدان المغرب الكبير مصادر ونقاط عبور للمهاجرين المتجهين إلى أوروبا. ومن المرجح أن يكون المنهج الأكثر إنسانية الذي يتبناه اليسار الفرنسي في التعامل مع سياسة الهجرة، والذي يركز على التكامل وحقوق الإنسان، موضع ترحيب. ومع ذلك، هناك مخاوف من أن الضوابط الحدودية الأكثر صرامة وزيادة التدقيق قد تؤدي إلى تعقيد الوضع بالنسبة للمهاجرين وطالبي اللجوء.

الرأي العام في بلدان المغرب الكبير متنوع. وفي المغرب وتونس هناك نظرة إيجابية عموماً لانتصار اليسار الفرنسي، الذي يُنظر إليه باعتباره خطوة نحو قدر أكبر من الاحترام لحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية. أما في الجزائر، فالرأي العام أكثر انقساما، مما يعكس العلاقة التاريخية المعقدة مع فرنسا. وفي ليبيا وموريتانيا، كانت ردود الفعل أكثر هدوء مع تركيز عامة الناس على القضايا الداخلية.

لقد غطت وسائل الإعلام في منطقة المغرب الكبير الانتخابات الفرنسية على نطاق واسع، مما يعكس المستوى العالي من الاهتمام بالتطورات السياسية في فرنسا. وقد سلطت وسائل الإعلام المغربية والتونسية الضوء على إمكانية حدوث تغيير إيجابي في العلاقات الثنائية، في حين كانت وسائل الإعلام الجزائرية أكثر انتقادا، مؤكدة على حاجة فرنسا إلى معالجة المظالم التاريخية. وركزت وسائل الإعلام الليبية على إمكانية تجديد الجهود الدبلوماسية، ورحبت وسائل الإعلام الموريتانية بتأكيد اليسار على التنمية وحقوق الإنسان.

 

من المرجح أن تتأثر التبادلات الثقافية بين فرنسا وبلدان المغرب الكبير بسياسات الحكومة الفرنسية الجديدة. إن تركيز اليسار على التعددية الثقافية وجهود مكافحة التمييز يتردد صداه لدى المجتمعات المتنوعة في المغرب الكبير. هناك إمكانية لزيادة التعاون الثقافي، لا سيما في مجالات مثل التعليم والفنون والإعلام. ومع ذلك، هناك أيضًا مخاوف بشأن تأثير السياسات الداخلية الفرنسية على المجتمعات المغاربية في فرنسا، خاصة فيما يتعلق بالاندماج والتماسك الاجتماعي.

إن انتصار اليسار الفرنسي يشكل تحديات وفرصاً لبلدان المغرب الكبير. وسوف يتطلب التعامل مع هذه التحديات مهارة دبلوماسية وتخطيطاً استراتيجياً.

إن تركيز اليسار على حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية من الممكن أن يؤدي إلى قدر أعظم من التدقيق في السياسات الداخلية التي تنتهجها بلدان المغرب الكبير. وهذا قد يؤدي إلى توتر العلاقات الدبلوماسية، خاصة مع دول مثل الجزائر والمغرب، حيث توجد قضايا مستمرة تتعلق بحقوق الإنسان. ومع ذلك، فهو يمثل أيضًا فرصة لهذه البلدان لتعزيز التزامها بالإصلاحات الديمقراطية وتحسين مكانتها الدولية.

إن إمكانية زيادة التعاون الاقتصادي كبيرة. يمكن لبلدان المغرب الكبير أن تستفيد من الاستثمار الفرنسي في التنمية المستدامة والتكنولوجيات الخضراء. ومع ذلك، سيتعين عليهم التعامل مع التحديات المحتملة التي تفرضها السياسات البيئية لليسار، وخاصة في قطاع الطاقة.

إن المنهج الذي يتبناه اليسار الفرنسي في التعامل مع الهجرة يطرح فرصاً وتحديات في آن واحد. إن التركيز على التكامل وحقوق الإنسان موضع ترحيب، ولكن هناك مخاوف بشأن تشديد الرقابة على الحدود وتأثيرها على المهاجرين وطالبي اللجوء. وسوف تحتاج بلدان المغرب الكبير إلى التعاون مع الحكومة الفرنسية الجديدة لمعالجة هذه القضايا بشكل تعاوني.

إن التركيز على التعددية الثقافية وجهود مكافحة التمييز من قبل اليسار الفرنسي يتوافق مع المجتمعات المتنوعة في المغرب الكبير. هناك إمكانية لزيادة التعاون والتبادل الثقافي، الأمر الذي يمكن أن يعزز الروابط الاجتماعية ويعزز التفاهم المتبادل. ومع ذلك، فإن تأثير السياسات الداخلية الفرنسية على الجاليات المغاربية في فرنسا سوف يحتاج إلى مراقبة عن كثب.

ختاما لقد أثار فوز اليسار الفرنسي في الانتخابات التشريعية لعام 2024 مجموعة من ردود الفعل من دول المغرب الكبير، مما يعكس تنوع مشاهدها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وفي حين أن هناك فرصا كبيرة لتعزيز العلاقات الثنائية، والتعاون الاقتصادي، والتبادلات الثقافية، إلا أن هناك أيضا تحديات تحتاج إلى التعامل معها بعناية. ويضيف السياق التاريخي للعلاقات المغاربية الفرنسية طبقة إضافية من التعقيد، الأمر الذي يتطلب مقاربة متوازنة ودقيقة من كلا الجانبين. ومع تشكيل الحكومة الفرنسية الجديدة، سوف تراقب بلدان المغرب الكبير عن كثب وتشارك لضمان تمثيل مصالحها ومعالجتها بشكل فعال.

0 التعليقات: