الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الاثنين، أغسطس 19، 2024

"الشعر كاحتجاج: تفكيك اللغة والمجتمع من منظور أدونيس" عبده حقي


يؤكد أدونيس أن الشعر أكثر من مجرد مسعى فني؛ فهو شكل من أشكال التمرد على البنيات التقليدية للغة والمجتمع. وتجسد هذه الرؤية كنه دور الشعر في تحدي المعايير، ومساءلة الوضع الراهن، وإعادة تعريفه. ويرى أدونيس، أحد أكثر المفكرين تأثيرًا في الأدب العربي الحديث، أن الشعر أداة قوية تتجاوز الحدود التقليدية، وتقدم مجهرا فريدا من نوعه لإدراك العالم وانتقاده. كما تدعونا وجهة نظره إلى استكشاف السبل التي يعطل بها الشعر ويعيد تشكيل أطارات اللغة والبنيات المجتمعية.

ولفهم رؤية أدونيس هاته، يجب علينا أولاً النظر في البنيات التقليدية للغة. فاللغة، في استخدامها اليومي، غالبًا ما تكون مقيدة بقواعد وبنية نحوية تملي علينا كيفية التعبير عن أفكارنا. وتخلق هذه البنيات منهجية موحدة للتواصل، والتي على الرغم من كونها وظيفية، إلا أنها قد تكون مقيدة أيضًا. في ظل هذه القيود، يجد الشعر روحه المتمردة. يرفض الشعر أن تقيده البنيات الجامدة للغة. وبدلاً من ذلك، ينحني ويكسر ويعيد تشكيل هذه القواعد لخلق أشكال جديدة من التعبير. يتجلى هذا التمرد اللغوي في الطريقة التي يلعب بها الشعراء بالتراكيب النحوية، أو يخترعون مجازات واستعارات جديدة، أو يستخدمون اللغة بطرق غير تقليدية لاستحضار الأحاسيس، أو نقل الأفكار المجردة، أو اقتناص اللحظات العابرة.

بالنسبة لأدونيس، فإن تمرد الشعر ضد اللغة ليس مجرد اختيار أسلوبي بل هو جانب أساسي من طبيعته. من خلال تحدي المعايير اللغوية، يتحدى الشعر القارئ للتفكير بشكل مختلف، والنظر إلى ما وراء المعاني السطحية للكلمات، والانخراط في اللغة على مستوى أعمق وأكثر تأملاً. إن هذا الانخراط ليس سلبياً؛ فهو يتطلب من القارئ المشاركة بدينامية في خلق المعنى، وفك شفرة قصدية الشاعر، وإعادة بناء السرد في أذهانه. وعلى هذا النحو، يصبح الشعر عملاً تشاركيا للتمرد، حيث يشارك الشاعر والقارئ معا في تقويض بنية اللغة التقليدية.

لا يقتصر تمرد الشعر على اللغة وحدها؛ بل يمتد إلى البنيات المجتمعية الأوسع التي تحكم الوجود البشري. فالمجتمع، مثله كمثل اللغة، يقوم على مواضعات - الأعراف والتقاليد والمؤسسات التي تملي على الأفراد كيفية التصرف والتفكير والتفاعل. وغالبًا ما تمر هذه البنيات دون أي تساؤل أو مساءلة، ويتم قبولها باعتبارها النظام الطبيعي للأشياء. ومع ذلك، فإن الشعر، بتحديه المتأصل، يعمل كمحفز للتساؤل حول هذه الأعراف. فهو يتحدى الوضع الراهن، ويكشف عن العيوب والتناقضات والظلم الكامن في البنيات المجتمعية.

إن شعر أدونيس نفسه هو شهادة على هذه الروح المتمردة. وغالبًا ما تنتقد أعماله الأنظمة السياسية والاجتماعية، وتستكشف موضوعات القمع والحرية والهوية. ومن خلال رؤيته الشعرية ، يفكك أدونيس واجهات القوة والسلطة، ويكشف الحقائق الأساسية التي غالبًا ما تحجبها السرديات التقليدية. على سبيل المثال، في قصيدته "صحراء" يستخدم أدونيس المشاهد الطبيعية القاحلة كاستعارة للفراغ والخراب الذي تفرضه الأنظمة الاستبدادية. إن الصور الصارخة والبنية المجزأة في القصيدة تعكس تفكك القيم المجتمعية في ظل السلطة القمعية، وتحث القارئ على التساؤل ومقاومة القوى التي تكرس هذا الواقع.

في هذا السياق، يصبح الشعر شكلاً من أشكال المقاومة ــ وسيلة لتأكيد الفردية والاستقلالية في مواجهة المواضعات المجتمعية. وهو يمكّن الشاعر والقارئ معا من استعادة صوتيهما، والتعبير عن الاختلاف، وتخيل حقائق بديلة. إن هذا الجانب التخييلي بالغ الأهمية؛ فالشعر لا ينتقد البنيات القائمة فحسب، بل يتصور أيضاً إمكانيات جديدة. وهو يفتح مساحة للإبداع والابتكار، حيث يمكن استكشاف أفكار ، وتخيل طرق جديدة للوجود.

إن الطبيعة المتمردة للشعر لا تقتصر على أي ثقافة أو حقبة زمنية معينة. فعلى مر التاريخ، استخدم الشعراء من مختلف التقاليد حرفتهم لتحدي النماذج السائدة. فمن الشعراء الرومانسيين الذين تمردوا على التصنيع والمادية إلى شعراء البيت الذين رفضوا المطابقة في أمريكا في الخمسينيات، كان الشعر دائماً وسيلة للتعبير عن الاختلاف. وبالتالي، فإن رؤية أدونيس يتردد صداها عبر الثقافات والعصور، مسلطة الضوء على القوة العالمية للشعر في كبح التوافقات والدعوة إلى التغيير.

في التقليد الأدبي العربي، الذي يعتبر أدونيس شخصية بارزة فيه، تكرس الشعر كوسيلة للمقاومة. غالبًا ما تناول الشعر العربي، وخاصة في شكله الكلاسيكي، موضوعات العدالة الاجتماعية والفساد السياسي ونضالات المهمشين. ومع ذلك، فقد جلب أدونيس حساسية حداثية إلى هذا التقليد، وغرس فيه أشكالًا ورؤى حديثة حيث يعكس شعره، الذي يتميز بتعقيداته وعمقه وتجريده، التزامه بتحدي كل من الأعراف اللغوية والمجتمعية. وبذلك، لم يقم أدونيس بإعادة تعريف الشعر العربي فحسب، بل ساهم أيضًا في الفهم العالمي للشعر كشكل من أشكال التمرد.

ختاما، يجسد تأكيد أدونيس على أن "الشعر هو شكل من أشكال التمرد ضد البنيات التقليدية للغة والمجتمع" القوة التحويلية للشعر. من خلال تحديه للمعايير اللغوية وانتقاده للهياكل المجتمعية، يعمل الشعر كأداة قوية لتحدي الوضع الراهن، وإثارة الفكر، وإلهام التغيير. إن أعمال أدونيس تجسد هذه الروح المتمردة، وتوضح كيف يمكن للشعر أن يخلخل السرديات التقليدية ويفتح إمكانيات جديدة لفهم العالم والتفاعل معه. وفي عالم يسود فيه التقليد في كثير من الأحيان، يقف الشعر كبوصلة للمقاومة، ويوفر مساحة للإبداع والتفرد، وفي نهاية المطاف، الحرية.

0 التعليقات: