في خطوة مثيرة للتساؤل، تناقضت التصريحات الرسمية الجزائرية مع الواقع المالي الجديد الذي أعلنت عنه مجموعة البنك الإسلامي للتنمية، الذي كشف عن منح الجزائر قروضاً بقيمة ثلاثة مليارات دولار على مدى ثلاث سنوات، لتمويل مشاريع اقتصادية، من بينها خطوط السكك الحديدية. هذا الإعلان جاء ليهز خطاباً دام لسنوات، روج له الرئيس عبد المجيد تبون، مفاده أن اللجوء إلى الاستدانة الخارجية «خيانة للسيادة» و«تهديد للأمن القومي».
منذ 2021 وحتى ربيع 2025، دأب تبون، في كل ظهور إعلامي أو مناسبة اقتصادية، على التأكيد بأن الجزائر "لن تركع"، ولن تلجأ "أبداً" إلى الاستدانة الخارجية، معتبراً هذا المسار المالي خطاً أحمراً. وقد تم إلباس الدين الخارجي بلبوس الشبهة، حتى أنه وصف بـ"الحرام"، كما جرى تأطيره ضمن سردية السيادة الوطنية المطلقة التي لا يجوز المساومة عليها مهما كانت الظروف الاقتصادية.
لكن، وعلى أرض الواقع، جاءت قمة البنك الإسلامي للتنمية المنعقدة في الجزائر منذ 20 مايو 2025 لتسقط هذا الخطاب، بعد إعلان رئيس البنك، محمد سليمان الجاسر، في لقاء تلفزيوني، أن الجزائر حصلت على تمويل ضخم يغطي ثلاث سنوات، بهدف تمويل مشاريع بنيوية ضخمة، أبرزها مشروع خط سكك حديدية من تندوف إلى الشمال. المفارقة أن هذا الإعلان لم يجد طريقه إلى وسائل الإعلام الرسمية، التي اكتفت بذكر «مبادرات تنموية» دون الإفصاح عن كونها قروضاً.
هذا التناقض الصارخ أثار دهشة الرأي العام، الذي تعرّض لحملة مطولة من التخويف والتشكيك في جدوى الاستدانة الخارجية، حتى بات يعتبرها مرادفاً للتبعية. في حين أن الواقع الاقتصادي العالمي، من الولايات المتحدة إلى اليابان، يثبت أن أغلب دول العالم المتقدم والناشئ تعتمد على الاستدانة كأداة طبيعية لتمويل التنمية، دون أن يعني ذلك التنازل عن السيادة.
البنك الإسلامي للتنمية، الذي تأسس عام 1973 وبدأ نشاطه الفعلي سنة 1975 من مقره الرئيسي في جدة، يجمع 57 دولة إسلامية، من بينها الجزائر كعضو مؤسس، وتُقدّر مساهمتها بنسبة 2.43%، أي أعلى من المغرب وتونس، لكنها تبقى أقل من السعودية وقطر وليبيا. للبنك فروع في الرباط وكوالالمبور، ومكاتب في آسيا الوسطى، ويعتمد في تمويله على مبادئ الشريعة الإسلامية، رافضاً الفوائد البنكية التقليدية.
الأزمة لا تكمن في مبدأ الاستدانة بحد ذاته، بل في غياب الشفافية حول طبيعة المشاريع الممولة، ومدى جدواها الاقتصادية. فعلى سبيل المثال، مشروع خط السكة الحديدية الرابط بين مناجم غار جبيلات وميناء وهران، بطول يتجاوز 950 كلم وبتكلفة تقارب 6 مليارات دولار، يطرح أسئلة مقلقة حول مردوديته. فهل من الحكمة توجيه أغلب التمويل إلى مشروع أحادي الأهداف (نقل الحديد)، في حين تفتقر البلاد إلى البنى التحتية الحيوية، كالمصانع والموانئ والمطارات والطرق السريعة؟
الجزائر اليوم في حاجة إلى استثمارات ضخمة لتلبية احتياجات شعبها الذي يقترب عدده من 50 مليون نسمة. تحتاج إلى مصانع، إلى فرص شغل، إلى تنويع مصادر دخلها، خاصة بعد عقود من الاعتماد شبه الكلي على الريع النفطي. وهذا يتطلب، موضوعياً، الانفتاح على القروض والاستثمارات الدولية، شريطة الشفافية، والتوجيه العقلاني للأموال نحو مشاريع تنموية ذات مردودية اقتصادية واجتماعية واضحة.
التحدي أمام السلطة اليوم لا يكمن في تبرير الاقتراض، بل في كسر جدار الإنكار الإعلامي والسياسي الذي شُيِّد حول هذا الموضوع لسنوات. كما يتعين عليها مصارحة المواطنين، لا معاملتهم كقاصرين سياسياً. فالحقيقة أن الجزائر، كغيرها من الدول النامية، لا يمكنها أن تموّل نهضتها من مدخراتها المحدودة، بل تحتاج إلى شراكات استراتيجية مع مؤسسات مالية دولية.
وإذا كان لا بد من إعادة فتح نقاش وطني حول الاستدانة، فليكن نقاشاً عقلانياً، بعيداً عن التهويل أو التخوين، مبنياً على سؤالين محوريين: من أين نقترض؟ ولأجل ماذا؟ أما أن تستدين السلطة في الخفاء، ثم تواصل شيطنة الاستدانة في العلن، فتلك قمة التناقض، التي إن استمرت، لن تهدد فقط ثقة المواطنين، بل مصداقية الدولة برمتها.
0 التعليقات:
إرسال تعليق