الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


السبت، مايو 31، 2025

تأملات صحفي في غزو الذكاء الاصطناعي لغرف التحرير: ترجمة عبده حقي


منذ اللحظة التي عرفت فيها أول قاعة تحرير، كنت أستشعر شيئًا من القداسة في تلك الفوضى المنتظمة: الأصوات المرتفعة، ضجيج لوحات المفاتيح، وعيون الصحفيين تلتهم الشاشات بحثًا عن الحقيقة. لم أكن أتصور أن يأتي يوم تُستبدل فيه هذه الملامح الحية بأنظمة ذكاء اصطناعي تقرأ، وتكتب، وتحرر، بل وتنتقي العناوين بدقة خوارزمية لا ترحم.

لقد شهدنا، خلال العقدين الماضيين، تحولات تقنية متسارعة، لكن الذكاء الاصطناعي لم يكن مجرد تطور إضافي؛ بل كان زلزالًا أعاد تشكيل علاقة الصحفي بعمله. فبينما كنا نكافح لتأكيد مصداقيتنا أمام سيل الأخبار الزائفة في عصر "ما بعد الحقيقة"، جاءت تقنيات مثل ChatGPT وBard  وClaude  لتقترح أن بعض وظائفنا لم تعد بحاجة إلى "إنسان" بالمعنى التقليدي.

بدأت القصة بالنسبة لي عندما قرأت عام 2014 عن تجربة صحيفة "واشنطن بوست" في استخدام خوارزمية «Heliograf» لتغطية أولمبياد ريو والأخبار العاجلة. لم تكن النتيجة كارثية كما توقعت، بل على العكس، أنتجت الخوارزمية آلاف المقالات القصيرة بصياغة سليمة وبمستوى مقبول من الدقة. في البداية، أقنعتُ نفسي أنها فقط تفرغ الصحفيين للمهام الأكثر تعقيدًا. غير أن السنوات التالية كشفت الوجه الآخر للعملية: تقليص الموارد البشرية لصالح أدوات أرخص وأكثر طاعة.

عندما قرأت تقرير "رويترز للصحافة الرقمية 2023"، صدمتني النسبة المتزايدة للمؤسسات التي تعتمد على أدوات توليد النصوص والتحرير الآلي، ليس فقط في المراحل التقنية، بل حتى في قرارات التحرير نفسها. هذه الأتمتة امتدت إلى تحديد زاوية التناول، صياغة العنوان، وحتى توقيت النشر بناءً على خوارزميات التفاعل الجماهيري.

هنا بدأت أتساءل: هل الصحافة، كما تعلمناها، في طريقها إلى الزوال؟ أم أننا بصدد ولادة صحافة هجينة، يتعايش فيها الإنسان مع الآلة؟

إن الذكاء الاصطناعي لا يعاني من التعب، لا يضربه التحيز (إلا إن كان مبرمجًا عليه)، ولا يحتاج إلى استراحة قهوة. لكنه، في المقابل، يفتقر إلى السياق الثقافي، إلى النبرة الإنسانية، إلى ذلك الحدس الغامض الذي يجعل صحفيًا مغربيًا يميز بين "الحدث" و"القصة".

في إحدى الندوات التي حضرتها ضمن فعاليات «مهرجان الصحافة العالمي في بيروجيا» عام 2025، أثارت صحفية من جنوب إفريقيا سؤالًا استوقفني طويلًا: "هل نحن نُدرّب الذكاء الاصطناعي على مهنتنا، أم نُدرّب أنفسنا على أن نكون مثله؟". سؤال يلخص مأزق الصحافة المعاصرة: الانبهار بالإنتاجية مقابل فقدان البُعد الإنساني للخبر.

لن أنكر أن هذه الأدوات وفرت علينا وقتًا وجهدًا. شخصيًا، استخدمت شات جي بي تي لمساعدتي في ترجمة بعض الوثائق التقنية، وأحيانًا لصياغة ملخصات معقدة بلغات متعددة. ولكنني في كل مرة كنت أعود وأعيد الصياغة بنفسي، كأنني أُعيد تشكيل النص ليشبهني، ليحمل بصمتي، ليخرج من قلب مغربي يعرف كيف تتحول التفاصيل الصغيرة إلى نبرة، وإلى وجهة نظر.

هناك أيضًا خطر لا يُستهان به: من يتحكم في خوارزميات التحرير؟ من يضبط انحيازاتها؟ من يملك مفاتيح هذه الأدوات؟ إنها ليست أسئلة تقنية، بل سياسية بامتياز. فالصحافة، كما نعلم، ليست مجرد نقل للمعلومة، بل هي صناعة للمعنى، وتحديد للزوايا، وانتقاء لما يُقال وما يُسكَت عنه.

وفي هذا السياق، تحضرني أطروحة «شوشانا زوبوف» في كتابها "عصر رأسمالية المراقبة"، حين تُحذر من استغلال البيانات في توجيه الرأي العام، ليس فقط عبر الإعلانات، بل حتى عبر المحتوى الإخباري نفسه. الذكاء الاصطناعي، كما تقول، قد يتحول إلى "مرايا ناعمة للاحتلال الخفي" للوعي.

إنني أؤمن أن المعركة ليست بين الإنسان والآلة، بل بين من يسعى لتطويع التقنية لخدمة المعرفة، وبين من يطوعها لخدمة التحكم والسيطرة. إن غرف الأخبار اليوم أشبه ما تكون بمختبرات لصراع وجودي: هل نسمح للذكاء الاصطناعي بأن يُعيد تشكيل الصحافة على صورته؟ أم نعيد نحن تشكيله على صورتنا ككائنات تبحث عن المعنى، لا فقط عن المعلومة؟

لذلك، لا بد من تأطير العلاقة بين الصحافة والذكاء الاصطناعي ضمن ميثاق أخلاقي واضح، يُحدد دور الإنسان كمحرر نهائي، ويُقيد الاعتماد الأعمى على الأتمتة. ولابد أيضًا من إدماج التربية الإعلامية في التعليم المغربي، حتى لا يتحول قارئ الغد إلى مستهلك سلبي لمنتجات خوارزمية مجهولة الهوية.

0 التعليقات: