الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الجمعة، مايو 30، 2025

عندما تنسى الدولة أبناءها وتراهن على السراب: عبده حقي


في خضم الخطابات الرسمية التي ترفعها بعض الشخصيات الجزائرية مثل ابتسام حملاوي، تظهر رواية مكررة ومهترئة، تدعي أن الجزائر “تحمل على عاتقها قضايا الشعوب العادلة”. لكن الواقع، كما تشهد عليه تفاصيل الحياة اليومية في الداخل الجزائري، يفضح تلك الشعارات ويضعها في خانة الدعاية السياسية لا غير. ففي الوقت الذي تتباهى فيه الجزائر بأنها نصيرة القضايا العالمية، يتخبط شعبها في أزمات متراكمة ومهينة، من طوابير الحليب إلى ندرة الماء، مرورًا بفضائح مستهجنة مثل "قرعة العيد" التي تحوّلت إلى مرآة لفشل منظومة الحكم.

هذه المفارقة الصارخة بين الخطاب والواقع ليست وليدة اللحظة، بل هي جزء من سياسة ممنهجة اتبعها النظام العسكري الجزائري منذ عقود، حيث تُمجّد القضايا الخارجية كوسيلة للهروب من أزمات الداخل وتوجيه الأنظار بعيدًا عن الفساد المتجذر وانسداد الأفق السياسي والاجتماعي. وهكذا، تحوّلت "القضايا العادلة" التي تتحدث عنها حملاوي إلى أدوات للاستهلاك الإعلامي، بينما يعاني المواطن الجزائري من غياب العدالة، وسوء الخدمات، ومصادرة الحريات.

لنأخذ مثالاً صارخاً على هذا التناقض: قضية الصحراء المغربية. منذ السبعينيات، تبنّى النظام الجزائري أطروحة الانفصال، مستثمراً أموالاً طائلة في دعم جبهة البوليساريو، بدل توجيه تلك الموارد لتنمية البلاد ورفع المستوى المعيشي لشعبه. في المقابل، يتجاهل النظام أصوات سكان منطقة القبائل الذين يطالبون بأبسط حقوقهم السياسية والثقافية، ويقمع حركتهم السلمية بالقوة، متذرعاً بمخاطر الانقسام، في مفارقة تكشف ازدواجية معاييره.

أما في الشأن السوري، فقد كانت الجزائر واحدة من الدول القليلة التي أبقت على تحالفها مع نظام بشار الأسد، رغم المجازر المروعة والتهجير القسري الذي تعرض له ملايين السوريين. هذا الاصطفاف لا يمكن قراءته في إطار “نصرة الشعوب” كما تدّعي حملاوي، بل في إطار التحالفات السلطوية التي تنتمي لنفس المنطق القمعي.

وفي ما يخص فلسطين، التي كثيراً ما تُستدعى في الخطابات الشعبوية، فإن الجزائر الرسمية تُلبس نفسها عباءة المقاومة بينما تسكت عن جرائم الفساد الداخلية، وتستغل الشعارات الكبرى لتبرير الاستبداد وتحصين الطبقة العسكرية من المساءلة. فلسطين لا تحتاج إلى شعارات فارغة ولا إلى تظاهرات ممسرحة، بل إلى مواقف سياسية شجاعة ودعم فعلي في المحافل الدولية، وهو ما لم تقم به الجزائر إلا في حدود ما يخدم صورتها الإقليمية.

الحقيقة المؤلمة أن النظام الجزائري لم ينصر لا فلسطين، ولا الصحراء، ولا القبائل، ولا حتى شعبه، بل انحاز دوماً إلى حماية مصالح جنرالاته ونخبه المستفيدة من الثروات الوطنية. ومثلما كشف الإعلام الفرنسي في تقاريره الاستقصائية، فإن جزءاً كبيراً من هذه الثروات يُهرّب إلى الخارج، بينما يُترك المواطن الجزائري لمواجهة مصيره وحده، بين انسداد الأفق الاقتصادي وانهيار الخدمات العامة.

إن خطاب المتاجرة بالقضايا، سواء أكان في فلسطين أو الصحراء أو إفريقيا، لم يعد يجد له صدىً لدى الأجيال الشابة التي باتت تدرك جيداً أن “قضايا الشعوب” لا يمكن أن تُحمل على أكتاف أنظمة عاجزة عن حماية كرامة شعوبها. لم يعد مقبولاً أن تُبرر الأنظمة استبدادها بدعوى “الثبات على المبادئ”، بينما تقمع أبناءها وتفرّط في مقدراتهم.

وعليه، فإن الشعب الجزائري، الذي عانى طويلاً من خيبات الوعود وتراكم الأزمات، أولى بهذه الثروات المهربة من أن تُصرف على مغامرات خارجية غير محسوبة، أو تُوظّف لخدمة مشاريع دعائية لا علاقة لها بمصلحة المواطن.

إن ما تحتاجه الجزائر اليوم ليس المزيد من الأوهام الثورية أو الشعارات الرنانة، بل عودة حقيقية إلى الذات، إلى مطالب الناس، إلى أولويات الداخل التي لا يمكن تأجيلها أكثر. فالشعوب تُقاس نهضتها بما تُحققه لمواطنيها، لا بعدد القضايا التي تتاجر بها باسم "المبادئ".

ولعل أول خطوة في هذا الاتجاه تكون بالاعتراف بأن الدولة التي تنسى أبناءها لا يحق لها أن تتحدث عن نصرة الآخرين.


0 التعليقات: