وقفتُ أمام هذه الصورة كما يقف مسافرٌ قديم على عتبة محطةٍ زمنيّة، لا ينتظر قطارًا بل يستحضر قطارات مرّت، وكان فيها صوت روجي هودسون هو التذكرة الوحيدة التي حملتها من الشباب إلى الحلم. نعم، أنا مغربيٌ من زمن الأغاني الصادقة، ومن جيلٍ كانت فيه الموسيقى تعويذة للخلاص، وكنتُ وما زلتُ أُقسم بأن صوت روجي ليس مجرد نبرة، بل هو شرفة تطلّ منها الروح على غابةٍ من النور.
في هذه الصورة، لا
يظهر روجي كمجرد مغنٍّ سابق في فرقة "سوبرترامب"، بل ككائنٍ أثيريّ، يقف
بين البيانو والغيتار، كما لو أنه يقف بين زمنين، بين حلمٍ لم ينتهِ بعد ونغمةٍ لم
تُعزف بعد. أراه هناك، ببذلته السوداء المخلوطة برسومات بيضاء، يتكئ على حافة البيانو
كمن يهمس للمفاتيح: "هل تذكرين؟" وتردّ عليه الموسيقى في داخلي: "كيف
أنساك؟"
ما يشدّني في الصورة
ليس فقط ملامح روجي، بل تلك الابتسامة التي تبدو أبدية، كما لو أنه خرج للتو من أغنية
"Dreamer" أو "Give a
Little Bit" أو من
ركنٍ حالم في قلبي. إنها ابتسامة موسيقيٍ صالح، لم يُفسده المجد، ولم تبتلعه الأضواء.
رجلٌ ما زال يهمس للحياة بلطف طفل، رغم أن المسار كان طويلًا ومريرًا أحيانًا، لكنه
لم يتخلَّ عن نُبلِه.
أنا، المغربي المكناسي
الذي تربّى على موسيقى العالم، لم أكن يومًا أبحث عن الانتماء الجغرافي في الموسيقى،
بل عن الانتماء الروحي، ولعلّي وجدت في صوت روجي هودسون وطريقة عزفه ما لم أجده في
خريطة العالم بأكملها. حين غنّى "The Logical Song"، شعرت أنني أنا هو التلميذ الذي أضاع نفسه بين
الأسئلة، وحين قال في "Take the Long Way Home" إن الطريق الطويل هو أحيانًا أجمل، تيقّنت
أنني لم أُخطئ حين اخترت الشعر بدل الوظيفة، والحلم بدل الحساب.
هل لاحظتم كيف تحيط
به الآلات؟ البيانو إلى يساره والغيتار إلى يمينه، كما لو أنهما حارسان أمينان على
ذاكرةٍ موسيقية عظيمة. بل أراهم أقرب إلى جناحين، وها هو روجي يحلّق بينهما، لا على
خشبة مسرح، بل فوق العالم كله. وكأن الصورة تقول: هذا هو الطائر الذي لا يسكن قفصًا،
بل يخلق له سماءه كل صباح.
تأمّلت الخلفية الزرقاء
الداكنة للصورة، فبدت لي مثل ليلٍ داخلي، ليلٍ لا يُخيف، بل يحمي الأغنية من الضجيج،
ويعطي للّحن متسعًا كي يُولد بسلام. وهناك، بين زرقة الخلفية وأوتار الغيتار، تولد
أغانٍ لم تُكتب بعد، لكن روجي يعرفها، يحفظها، يخبّئها تحت أصابعه، ينتظر فقط أن يفرغ
العالم من الضجيج كي يهمس بها.
ما زلت أذكر أول مرة
سمعت فيها صوت روجي، كنت حينها في مكناس، عند أحد أصدقائي الذين كانوا يسجلون الأغاني
من الراديو على أشرطة كاسيت. حين صدح صوته، شعرت أن الزمن توقّف، وأن الجدران التي
كنت أحيا داخلها تصدّعت، وخرجت منها روحٌ جديدة لا تريد أن تعود. ومنذ ذلك الحين، صار
صوت روجي رفيقَ دربي، مثل دعاءٍ سرّي لا أعلنه، لكنه يرافقني في ترحالي وفي صمتي.
والآن، وأنا أرى هذه
الصورة، أُدرك أن ما يربطني بروجي ليس فقط حُبي لأغانيه، بل إحساسي أنه أحد أولئك القلائل
الذين لم يخونوا ذواتهم، لم يغيّروا جلودهم حين تغير الزمن. بقي هو هو، ذلك الفنان
الذي يعزف لا ليبهر، بل ليشفي، والذي يغنّي لا ليُصفّق له الناس، بل كي لا يبكي قلبٌ
وحيدٌ في هذا العالم.
في حضرة هذه الصورة،
أُدرك أن الفن الحقيقي لا يهرم، وأن الوجوه التي تهدي العالم نغمة، لا تذبل. فشكرًا
لك يا روجي، لأنك كنت نجمًا في ليل غربتي، وصوتًا في زحمة صمتي، وشكرًا لصورتك هذه،
لأنها أعادتني إلى زمن كنتُ أظنه ضاع.
وأنا المغربي الذي
أحبك، لا أراك فقط كما في هذه الصورة، بل أسمعك، وأعيشك، وأحملك في جيب معطفي كأنك
سرٌ صغير، لا أريد أن يكتشفه أحد، كي تظل لي وحدي.
0 التعليقات:
إرسال تعليق