الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


السبت، مايو 24، 2025

ملامح الصحافة الحرة في اقتصاد المهام: ترجمة عبده حقي


منذ لحظة قررت فيها أن أكتب كصحفي حر، أدركت أنني أخوض تجربة وجودية بقدر ما هي مهنية، تجربة تتأرجح بين حرية الكلمة وشبح الهشاشة. فالصحافة المستقلة في زمن اقتصاد المهام

 (gig economy)  لم تعد مجرد خيار متمرد على المؤسسات التقليدية، بل تحوّلت إلى مصير جديد لكثير من الصحفيين الباحثين

عن الأفق، لا عن المكتب. وأنا أتنقل بين المنصات، وأدوّن في المقاهي، وأرسل تقاريري من غرف الفنادق الصغيرة، أحس أنني أشارك في رسم مستقبل لا يزال ضبابيًا، لكنه ينبض بالإمكانيات والتحديات.

اقتصاد المهام، هذا النموذج الذي تفكّك فيه العلاقة الكلاسيكية بين العامل والمؤسسة، صار إطارًا لا يمكن تجاهله لفهم الصحافة اليوم. لم يعد التوظيف طويل الأمد هو القاعدة، بل غدت المنصات الوسيطة مثل Upwork وFiverr وFreelancer  هي ساحات العمل الجديدة. حتى الصحفيون المخضرمون في "نيويورك تايمز" أو "الغارديان" بدأوا يشعرون بتآكل الحدود بين "الداخل" و"الخارج". لم تعد الصحافة وظيفة، بل خدمة تُطلب وتُؤدى، تمامًا كما يُطلب سائق عبر تطبيق أو مترجم عبر موقع.

ما يغريني في هذا النموذج هو وهم السيادة. نعم، نحن نتوهم أننا أحرار: نختار موضوعاتنا، نرسم جداولنا، ونفاوض على أسعارنا. لكن هذه الحرية سرعان ما تنقلب إلى اختبار دائم: كيف أضمن دخلاً مستقرًا؟ كيف أحافظ على النزاهة وأنا أكتب لممولين متعددي الخلفيات؟ كيف أحصل على التأمين الصحي؟ كيف أراكم رأسمالاً رمزياً في عالم لا يعترف إلا بـ"اللايك" والمشاركة؟

تقرير "معهد رويترز" لسنة 2023 أشار إلى أن أكثر من 38% من الصحفيين الشباب في أوروبا يعملون بشكل حر، مقابل أقل من 20% قبل عقد فقط. هذا التحول ليس محض نزوة. بل هو انعكاس لأزمة مزدوجة: انهيار النموذج الاقتصادي للصحف التقليدية، وصعود منصات التواصل الاجتماعي التي باتت تنافس الصحفي على جمهوره، بل على شرعية الخبر نفسه.

لكن بين هذا الركام، تلوح بوادر أمل. مشاريع مثل «The Correspondent» الهولندية أو «Deca» الأمريكية أظهرت أن التمويل الجماعي (crowdfunding) قادر على دعم صحافة حرة، معمقة، وملتزمة. كما أن منصات مثل «Substack» أعادت الاعتبار للنشرات البريدية بوصفها أدوات تواصل مباشر بين الكاتب والقارئ، خارج منطق الإعلانات والترافيك.

شخصيًا، وجدت أن الصحافة تصبح أكثر قربًا من الناس حين أحرّرها من قبضة المؤسسات الكبرى. كتبت تحقيقًا عن العمال الموسميين في حقول الفراولة الإسبانية، لم ينشره أي موقع عربي، لكنه وجد حاضنته في منصة مستقلة بتمويل جماهيري. وحين كتبت سلسلة تدوينات عن ذكريات الصحافة الورقية في المغرب، لم أكن أطمح إلى أكثر من أن يعثر عليّ قارئ واحد يرى في ما أكتب امتدادًا لما عاشه هو يومًا.

مع ذلك، لا يمكننا التبشير بمستقبل وردي للصحافة الحرة دون مواجهة أعطاب هذا الاقتصاد الجديد. فالتحرر من "المؤسسة" لا يعني التحرر من "المنصة"، وكم من صحفي حر وجد نفسه رهينة خوارزميات تحدد إن كان ما كتبه سيُرى أم يُطمس. كما أن غياب الضمانات الاجتماعية يجعل من "الصحافة الحرة" أحيانًا مرادفًا لـ"العمل الهش"، كما ناقشته الباحثة سارة عبيدي في دراستها "الهشاشة المعممة في اقتصاد المهارات الحرة".

هل نحتاج نقابة جديدة للصحفيين الأحرار؟ ربما. هل نحتاج قوانين تحمي ملكية المحتوى الرقمي؟ بالتأكيد. هل يمكن أن تبزغ من العالم العربي منصات تحرير مستقلة تعيد التوازن بين الجودة والاستدامة؟ لا أملك إجابة نهائية، لكنني أؤمن أن الخيال المهني لا يقل أهمية عن الخيال الأدبي.

إنني أكتب لأبقى، لا فقط لأكسب. أكتب لأخلخل هذا النظام الرمادي الذي يضغط على الصحافة من فوق، ويسحبها من تحت. وفي كل تقرير أُنجزه، أشعر أنني أزرع لبنة في جدار جديد، جدار لا يؤطره المكتب ولا يمليه المدير، بل ينبع من تلك اللحظة الخالصة التي أواجه فيها النص، وأقول له: لن أكتبك إلا كما أؤمن بك.

وهكذا، في عالم تتداخل فيه حرية التعبير مع هشاشة العمل، تظل الصحافة الحرة رهينة سؤالين: لمن نكتب؟ وكيف نعيش من الكتابة؟ أما الجواب، فربما لا يملكه أحد... لكنه يُكتب، كل يوم، من جديد.

0 التعليقات: