لا يخفى على أحد أن مهنة الصحافة، رغم بريقها الخارجي، تحمل في طياتها مشقات لا تُرى بالعين المجردة. فبين لهاث الركض وراء الأخبار، وضغط المواعيد، والتعامل مع مصادر صعبة، وتغطية أحداث مؤلمة أو صادمة، يصبح الصحفي عرضة لتوتر مزمن وإرهاق متكرر قد يتحول إلى استنزاف بدني ونفسي خطير. في زمنٍ أصبح فيه الخبر يهرول قبل أن يُكتب، يحتاج الصحفي إلى مهارات جديدة ليس فقط في التحرير والتحقيق، بل في الاعتناء بنفسه أيضًا.
يمكن القول إن العديد
من الصحفيين يقعون في فخ الإنهاك المهني دون أن ينتبهوا. أحدهم يواصل الليل بالنهار
دون توقف، وآخر يُثقل كاهله بأكثر من تغطية يوميًا، وثالث لا يعرف الفرق بين عمله وحياته
الخاصة. والنتيجة؟ أعصاب مشدودة، قلة نوم، تراجع في جودة الكتابة، وربما فقدان الشغف
بالصحافة نفسها.
أولى النصائح التي
أود توجيهها هي ما يسميه الأطباء النفسيون "الاعتراف بالتعب" . لا عيب في
أن يعترف الصحفي بأنه متعب. بل إن هذا الاعتراف هو أول خطوة نحو الوقاية. الاعتقاد
بأن الصحفي يجب أن يكون "محاربًا لا يكل ولا يمل" هو وهم رومانسي لم يعد
يناسب زمن الخوارزميات والضغوط المتراكمة. الصحافة مهنة إنسانية في جوهرها، ومن يمارسها
ليس آلة.
ثانيًا، «تنظيم الوقت»
ليس مجرد رفاهية بل ضرورة مهنية. علينا أن نُخرج الصحافة من دوامة "الطوارئ الدائمة".
ليس كل خبر عاجلًا، ولا كل معلومة تستحق أن تسرق ساعات راحتنا. من المهم أن يحدد الصحفي
ساعات عمل واضحة، وأن يحرص على فترات راحة منتظمة، خصوصًا بعد تغطيات طويلة أو تحقيقات
شاقة.
أما النصيحة الثالثة،
فهي متعلقة بما يمكن أن نسميه "التغذية النفسية". كما يحتاج الجسم إلى الطعام،
يحتاج العقل إلى ما يريحه. أن تقرأ في الأدب أو الفلسفة، أن تستمع للموسيقى، أو تخرج
في نزهة دون التفكير في العناوين أو الهوامش، هي أفعال صغيرة لكنها تصنع فرقًا كبيرًا.
لا يجب أن يُستهان بقدرة الفن على ترميم ما تفعله السياسة أو الاقتصاد بأعصابنا.
رابعًا، على الصحفي
أن يتعلم كيف يقول "لا" دون تأنيب ضمير. كثير من الإرهاق المهني سببه قبول
المهام الزائدة إما خوفًا من الرفض أو رغبة في إثبات الذات. لكن الحقيقة أن الصحفي
الذي يرهق نفسه باستمرار، لن يقدم في النهاية عملاً متميزًا. "لا" ليست رفضًا
للعمل، بل دفاع عن القدرة على الاستمرار فيه.
خامسًا، لا بد من «تفريغ
الضغوط» بطريقة صحية. البعض يختار الرياضة، آخرون يلجؤون للكتابة الحرة، وهناك من يجد
في الحديث مع زميل أو صديق متنفسًا عاطفيًا. المهم هو ألا تُكبت المشاعر السلبية في
الداخل، لأنها إن تراكمت تحولت إلى قلق أو اكتئاب أو حتى أمراض عضوية.
كما أن «طلب المساعدة
النفسية» لم يعد أمرًا مُحرجًا. العديد من المؤسسات الإعلامية الدولية الكبرى باتت
توفر خطوط دعم نفسي لصحفييها، خاصة بعد تغطيات الكوارث والحروب. فالتعامل اليومي مع
مشاهد القتل، الفقر، الظلم، أو المعاناة الإنسانية يترك أثرًا عميقًا في نفسية أي إنسان،
مهما كانت صلابته.
في سياق آخر، ألاحظ
أن «تعدد المهام الرقمية» بات من أكبر مسببات التوتر لدى الصحفيين المعاصرين. ففي عصر
الإعلام المدمج، يُطلب من الصحفي أن يصور، ويمنتج، وينشر، ويرد على التعليقات، ويحلل
التفاعل... وهذا عبء لا يُحتمل إن لم يُوزع بذكاء. من هنا تأتي أهمية التدريب على أدوات
الإنتاج الرقمي، وتقسيم المهام بوضوح داخل الفريق الصحفي.
ولعل من أبرز مصادر
الإنهاك أيضًا هو «غياب التقدير أو الثناء المهني»، لا سيما في المؤسسات التي تتعامل
مع الصحفي كرقم أو أداة إنتاج. وهنا يجب أن يبحث الصحفي عن دوافعه الذاتية، ويخلق لنفسه
لحظات احتفاء صغيرة بإنجازه، ولو عبر تدوينة أو مشاركة مع صديق.
خلاصة القول: «الصحفي
ليس فقط من يصنع الحدث بل من ينجو من طاحونته أيضًا». أن تحافظ على توازنك النفسي والجسدي
هو جزء من مهنيتك، لا عكسها. وأن تعترف بالتعب وتستريح، لا يُنقص من مهنيتك، بل يحفظها.
الصحافة مهنة شغف ورسالة، لكن الشغف لا يُترجم بالاحتراق، والرسالة لا تؤدى من سرير
المستشفى.
في نهاية المطاف، يبقى
الصحفي إنسانًا. وكلما حافظ على إنسانيته، كلما استطاع أن يكتب عن العالم بأعين مفتوحة
وقلب نابض. وفي زمن الأخبار الزائفة والسرعة المجنونة، ربما كانت الصحة النفسية هي
الحصن الأخير للصحافة الحقيقية.
0 التعليقات:
إرسال تعليق