هل يمكن أن تكون الشفرة البرمجية شعرًا؟ وهل يمكن أن تتجاوز البرمجة وظيفتها التقنية لتغدو فعلًا إبداعيًا يشبه ما يفعله الروائي أو الشاعر؟ هذا السؤال لم يعد مجرد خيال جامح أو تأملات شاعر في زحمة الذكاء الاصطناعي، بل أضحى اليوم جزءًا من نقاش واسع حول ماهية الأدب الرقمي، وحدود الوسيط النصي، وقدرة البرمجيات على توليد المعنى.
حين أتأمل الأدب التفاعلي، أو تلك القصص التي تتغير تبعًا لاختيارات القارئ أو حتى لتفاعلات الزمن الحقيقي، أكتشف أن الشفرة لا تقل بلاغة عن اللغة المكتوبة. هي لغة داخل اللغة. تحت الجملة الظاهرة للقارئ، ثمة جملة خفية لا يراها إلا الكاتب/المبرمج، تتحكم في مجرى السرد، وتمنح النص قدرة على التفرّع، التناسخ، وربما التمرد على خطيته.
في كتابه “Electronic Literature: New Horizons for the Literary” ، يرى الباحث نورمان واردروب فراي “الأدب
الإلكتروني: آفاق جديدة للأدب” أن "البرمجة ليست مجرد أداة، بل هي شرط وجود للأدب
الرقمي." وأكاد أضيف من تجربتي الشخصية أن الكاتب الرقمي اليوم لا يكتب فقط بالقلم
أو الكيبورد، بل يكتب أيضًا بالمنطق، بالتفرعات، بالاحتمالات.
لقد تغيرت العلاقة
بين المؤلف والنص. لم يعد الكاتب هو السيد المطلق على مجريات السرد، بل أصبح أشبه بمصمم
فضاء، يضع قواعد العالم ويترك للقارئ حرية الاستكشاف. وهذا التحول الجذري في مفهوم
“المؤلف” يعيد إلى ذهني أطروحات رولان بارت حين كتب عن "موت المؤلف"، لكن
في حالتنا الرقمية، نحن لا نكتفي بموته، بل نبعثه في صورة خوارزمية.
في ورشة شاركت فيها
مؤخرًا حول "الأدب والبرمجة"، أدهشني عدد الشباب الذين أصبحوا يكتبون نصوصًا
سردية بلغة “بايثون”، أو يصممون قصائد تفاعلية بلغة “جافا سكريبت”. أحدهم، مبرمج في
الأصل، ابتكر قصة لا تُروى على شكل فقرات، بل تظهر كرموز مشوشة تُفكك مع تقدم القارئ
في النص، وكأن اللغة نفسها تدخل في حالة تفكك، كما تتفكك الذاكرة في رواية بورخيس.
ما يُدهش في هذه التجارب
أن النصوص لم تعد حبيسة صفحة أو شاشة، بل تتنفس وتتغير، ترتبط بزمن القارئ أو حالته
النفسية، تستجيب للطقس، أو تفتح أبوابًا سردية جديدة فقط عندما يُفتح البريد الإلكتروني
للكاتب نفسه، في تجربة هلامية تمحو الحدود بين الذات والآلة، بين الكاتب والمكتوب.
ومع ذلك، لا تزال المؤسسات
الأدبية التقليدية، من جوائز ومجلات نقدية، متأخرة عن هذا التحول. فهي غالبًا ما تنظر
إلى الشفرة كأداة لا أكثر، ولا تقر بأنها تُمارس الآن كتابة سردية عميقة ذات بنية بلاغية،
وإن جاءت في ثوب رقمي. وربما آن الأوان لإعادة تعريف مصطلحاتنا: ما هو "النص"؟
ما هي "القراءة"؟ وهل يمكن أن تكون الخوارزمية بحد ذاتها ضربًا من التأليف
الأدبي؟
في هذا السياق، أستحضر
ما كتبه ماثيو كيرشنباوم في كتابه *Mechanisms: New Media and the Forensic Imagination* " الآليات:
الإعلام الجديد والخيال الجنائي " حين أكد أن كل نص رقمي يحتوي على طبقتين: الأولى
مرئية للقارئ، والثانية تظل غائبة، وهي الشفرة التي تنظم وتوجه النص وتمنحه حياته الديناميكية.
وهذا تمامًا ما يجعل الشفرة ليست فقط أداة بل موضوعًا أدبيًا، لغةً في ذاتها.
من تجربتي الشخصية،
حين بدأت أتعلم البرمجة بعد سنوات من كتابة الشعر والمقالات، شعرت أنني أتعلم نحوًا
جديدًا، بلاغة جديدة، وأن كل "كود" أكتبه يمكن أن يكون بمثابة بيت شعري إذا
أُتقن تركيبه وتوزيع إيقاعه. فالكود الجيد ليس فقط الذي يعمل، بل الذي يُقرأ بسهولة،
يُفهم بسلاسة، ويُحدث أثرًا.
في النهاية، أجدني
مؤمنًا أن الأدب الرقمي ليس امتدادًا للأدب الورقي، بل هو قطيعة خلاقة معه. والشفرة
البرمجية، في هذا السياق، ليست لغة العقول الباردة فحسب، بل لغة القلوب التي تبحث عن
نص حي، لا يُقرأ مرة واحدة فقط، بل يولد من جديد في كل قراءة. إنها لحظة نادرة في تاريخ
الأدب، حين يلتقي المنطق بالخيال، وحين يصبح الكود قصيدة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق