أشعر أنني لم أعد مستخدمًا حرًا للإنترنت، بل أصبحت وقودًا لما تصفه شوشانا زوبوف في كتابها المؤلم والعميق «عصر رأسمالية المراقبة»، الذي لم يُكتب كمجرد نقد تكنولوجي، بل كصرخة فلسفية ضد نظام اقتصادي جديد يتسلل إلى حياتنا بصمتٍ ويعيد تشكيلها على صورة خوارزميات تتغذى على خصوصيتنا.
في هذا العمل الضخم، تصف زوبوف ظهور نمط اقتصادي جديد لا يشبه الرأسمالية الصناعية ولا حتى الرقمية بمفهومها الكلاسيكي، بل نمطًا أكثر دهاءً يعتمد على استخراج البيانات السلوكية للفرد وتحويلها إلى توقعات مربحة تُباع في أسواق جديدة غير مرئية. تسمي زوبوف هذا النظام بـ"رأسمالية المراقبة"، حيث يصبح الإنسان لا فقط زبونًا مستهلكًا، بل منتجًا قسريًا للمعلومات، دون علمه أو موافقته.
ما يميز هذا الكتاب
ليس فقط غزارة معلوماته وصرامته التحليلية، بل جرأته في فضح البنيات العميقة التي تقف
وراء ما نراه نحن كمجرد خدمات مجانية وبريئة مثل جوجل أو فيسبوك. تنطلق زوبوف من نقطة
واضحة: إن ما نعتقد أنه مجرد إعلان موجه أو تحسين في تجربة المستخدم، هو في الواقع
نتيجة عمليات ضخمة من استخراج البيانات وتجميعها وتحليلها، تُحوَّل لاحقًا إلى أدوات
للسيطرة على السلوك الإنساني. هنا، لا تُستخدم البيانات فقط لفهمنا، بل لتوجيه قراراتنا،
وتكييف رغباتنا، بل وحتى التنبؤ بمستقبلنا والتأثير عليه.
لقد شعرت، وأنا أتنقل
بين فصول الكتاب، أنني أمام نوع جديد من الاستعمار؛ ليس استعمارًا للأرض أو الموارد
الطبيعية، بل استعمارًا للعقل والوجدان، للنية ولرغبة الإنسان. تقول زوبوف إن الرأسمالية
الجديدة لا تكتفي بالوصول إلى ما نفعله، بل تطمح إلى السيطرة على ما «قد» نفعله. بهذا
الشكل، تتحول "الذات البشرية" إلى مجال للاستثمار، و"الحياة اليومية"
إلى حقل للتجريب والتوجيه.
زوبوف تقدم تاريخًا
غنيًا لبدايات هذا التحول، من خلال تحليل ظهور جوجل كنموذج أولي لرأسمالية المراقبة،
ثم انتقال هذه المنظومة إلى شركات كبرى مثل فيسبوك وأمازون ومايكروسوفت، وحتى وصولها
إلى القطاع العمومي من خلال التعاونات بين هذه الشركات والحكومات. لقد وُلد هذا النظام
– كما تشير – في غفلة من القانون وفي ظل فراغ تنظيمي مهّد الطريق أمام هذه الشركات
لتوسيع سلطتها دون محاسبة.
ما يجعل الكتاب أكثر
إقناعًا هو أن زوبوف لا تقع في فخ النقد الأخلاقي السطحي. هي لا تنتقد التكنولوجيا
في حد ذاتها، بل تحلل البنية الاقتصادية والسياسية التي تقف وراء استخدامها. تفرق بين
"الرأسمالية الرقمية" التي يمكن أن تكون خادمة للإنسان، و"رأسمالية
المراقبة" التي تضع الإنسان في خدمة النظام الربحي. تقول بوضوح: "ليست المشكلة
في التكنولوجيا، بل في من يسيطر عليها، ولماذا وكيف".
في إحدى فقرات الكتاب،
تستحضر زوبوف كلمات الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس حين تحدث عن "الاستعمار المنهجي
للعالم المعيشي"، وهو ما يبدو أنها ترى فيه تحقُّقًا فعليًا في زمن المنصات الرقمية.
لم يعد هناك فصل واضح بين المجال الخاص والعام، بين التفكير الحر والتوجيه غير المرئي،
بين القرار الشخصي والتأثير الخوارزمي الذي يحاصرنا من كل زاوية.
لقد ذكّرتني أطروحات
زوبوف بأعمال ميشيل فوكو حول السلطة والمعرفة والمراقبة، خاصة حين تحدث عن "البانوبتيكون"
بوصفه نموذجًا للسجن الحديث حيث لا يرى السجين الحارس لكنه يفترض أنه تحت المراقبة
دائمًا. هذا هو حالنا الآن، ولكن دون جدران أو قضبان. فالهاتف الذكي هو الكاميرا، وتطبيقات
الملاحة هي المسجلات، والمساعدات الصوتية هي الجواسيس.
لكن زوبوف لا تكتفي
بتشخيص الكارثة. هي تنادي بحلول، وبأخلاقيات رقمية جديدة تحمي الإنسان من أن يتحول
إلى "شيء يمكن التنبؤ به"، كما تصف. إنها تطالب بأن نعيد السيطرة على مصيرنا
الرقمي، أن نطالب بالشفافية، بالحق في الخصوصية، بالحق في أن نعيش دون أن نُراقب، أو
يُباع سلوكنا لمن يدفع أكثر.
ورغم أن الكتاب يركّز
على السياق الأمريكي، فإن رسائله تمتد عالميًا، خاصة إلينا في العالم العربي، حيث التحول
الرقمي يحدث بسرعة مفرطة وبوعي مؤجل. فبينما نسعد بخدمات الإنترنت المجانية، ننسى أن
"الثمن الحقيقي" قد يكون مستقبلنا كمجتمعات حرة ومستقلة.
في النهاية، كتاب «عصر
رأسمالية المراقبة» ليس فقط بيانًا ضد الجشع التكنولوجي، بل نداءً فلسفيًا من أجل استعادة
الكرامة الإنسانية في عصر الرقمنة الشاملة. وهو، في نظري، عمل يجب أن يُقرأ لا فقط
من قبل المهتمين بالتكنولوجيا والسياسة، بل من قبل كل من يشعر أن الإنسان يستحق أكثر
من أن يُختزل في معادلة احتمالية داخل خادمٍ بارد.
0 التعليقات:
إرسال تعليق