في كل مرة تندلع فيها أزمة إقليمية أو تشتعل حرب في الشرق الأوسط، تتعالى أصوات الخطاب الرسمي في الجزائر محذرة من أن البلاد سوف تكون "الهدف القادم"، وأن "الاستقرار في خطر" و"الوطن مهدد". يتكرر هذا اللحن في كل مناسبة، وكأن المخاطر التي تواجه الجزائر محصورة في الخارج، بينما الواقع يشير إلى أن الخطر الحقيقي ينخر الداخل، بصمت مدوٍّ.
الجزائر، الدولة الأكبر في إفريقيا من حيث المساحة، والغنية بثرواتها الطبيعية وموقعها الجغرافي الاستراتيجي. لكن ما الذي يجعلها أكثر هشاشة؟ هل هو العدو الخارجي، أم الانقسامات الداخلية؟ وهل يمكن لدولة أن تواجه خصومها وهي غارقة في صراعاتها الذاتية؟
منذ سنوات، تشهد المؤسسة
العسكرية الجزائرية هزات عنيفة. أكثر من 180 جينرالاً وضابطاً سامياً تم اعتقالهم منذ
2024، بتهم تتراوح بين الفساد والتآمر، لكن دون محاكمات عادلة أو شفافية قانونية. جنرالات
خدموا البلاد لعقود، تدرّجوا في الرتب، وتخرجوا من أعرق الأكاديميات العالمية كأكاديمية
سانت بطرسبورغ وموسكو ودمشق، وجدوا أنفسهم خلف القضبان، في ظروف تثير الكثير من الأسئلة.
أسماء كبرى مثل الجنرال
عبد الحميد ريس، خبير في الطاقة النووية، والجنرال سعيد بي، أحد رموز مكافحة الإرهاب،
وغيرهم كثيرون، غُيبوا عن المشهد. ليس لأنهم خانوا الوطن، بل لأنهم عبروا عن مواقف
لم ترُق للسلطة. لم يهاجمهم الاحتلال، ولا عملاء أجانب، بل عوقبوا بأيدي أبناء وطنهم.
هذه الممارسات لا تتوقف
عند المؤسسة العسكرية. وزراء سابقون، رؤساء حكومات، رجال أعمال ذوو كفاءة وشبكات دولية،
كلهم أُقصوا، وتمت شيطنتهم، واعتُقلوا في حملات اجتثاث شاملة، غالبًا بدعوى "محاربة
الفساد"، في حين أن الفساد البنيوي لا يزال مستشرياً في مفاصل الدولة.
المفارقة الكبرى أن
هذا الإقصاء يطال حتى أبناء هؤلاء المسؤولين. شاب جزائري تلقى تكوينه في أكاديميات
أمريكية مرموقة، تم تحويل مساره نحو العزلة العسكرية في تندوف، فقط لأن والده عبّر
عن موقف سياسي مستقل. هل بهذه الطريقة تُدار النخب؟ هل بإقصاء العقول يُبنى وطن؟
الأكثر مأساوية هو
الانهيار المعنوي الذي بات يطبع المجتمع الجزائري. لم يعد هناك من زعيم يمكن أن يجمع
الناس، ولا مشروع وطني يوقظ الحماسة. المشهد السياسي مفرغ من كل تعددية حقيقية، والمعارضة
محاصرة، والصحافة مُروّضة، والرأي الحر مُجرَّم.
إن الوضع لا يُبشر
بأي قدرة حقيقية على مواجهة التحديات الخارجية. كيف يمكن لجيش فقد كوادره ونخبه، أن
يدافع عن حدود وطن مهدد؟ كيف لاقتصاد منهك، محاصر بالبيروقراطية والفساد، أن يموّل
الدفاع والأمن؟ وكيف لمجتمع مقموع، مثقل باللاعدالة، أن ينهض للدفاع عن وطن لا يشعر
بالانتماء له؟
في ظل هذه المعطيات،
يصبح من السذاجة تحميل إسرائيل أو المغرب أو الولايات المتحدة أو فرنسا مسؤولية ما
يحدث في الجزائر. المشكلة ليست في الخارج، بل في الداخل. إنها في *الحُگرة*، في الفساد،
في انعدام الرؤية، في الإقصاء المنهجي للكفاءات.
الذين يُدفعون إلى
المنفى أو إلى السجون اليوم، هم ذاتهم الذين قد تحتاج إليهم الجزائر غداً إذا ما واجهت
عدواناً حقيقياً. ولكن هل ستجدهم حينها؟ أم أنها ستكون قد فرّطت فيهم، وأحرقت أوراقهم
في صراع لا يخدم إلا سلطة ضيقة اختزلت الوطن في ولاءاتها الخاصة؟
إن ما تحتاجه الجزائر
اليوم ليس خطاباً شعبوياً حول "التهديد الخارجي"، بل مصالحة وطنية شجاعة،
تبدأ بالإفراج عن الكفاءات، وفتح الفضاء العام، وإعادة الاعتبار للمؤسسات، وإطلاق ورشات
إصلاح اقتصادي حقيقي. لا يمكن حماية وطن تُسحق فيه النخبة وتُقصى فيه العقول.
لقد حذرت التجربة الإيرانية
من هذا المصير. هناك، حيث استغلت قوى أجنبية التصدع الداخلي والانقسام السياسي لإحداث
اختراقات أمنية من الداخل. نفس السيناريو وارد في الجزائر، إذا استمرت السلطة في مسارها
الإقصائي.
إن إنقاذ الوطن لا
يكون بتكرار شعارات فارغة، بل بإحداث قطيعة مع منطق الدولة الأمنية المطلقة، وفتح أفق
جديد للمواطنة والحرية. الجزائر لن تُحمى بالدبابات وحدها، وبعدائها للمغرب
وافتعالها لمشكلة الصحراء المغربية بل تُحمى بالعدالة، بالمساواة، بالكرامة، وبتمكين
أبنائها من الإسهام في رسم مستقبلهم.
فإن لم نفعل، فإن التهديد
الأكبر لن يأتي من العدو الخارجي، بل من داخلنا نحن. من صمتنا، من تواطئنا، ومن عجزنا
عن إدراك أن الوطن لا يُبنى بالسجون، بل بالعقول الحرة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق