حين أصدر جون دورهام بيترز كتابه "Speaking into the Air" عام 1999، لم يكن يقترح نظرية جديدة في الاتصال بقدر ما كان يعيد تفكيك فكرة "التواصل" ذاتها، بوصفها أوهامًا حديثة مغطاة بغبار الميتافيزيقا، تتقنع بلغة التقنية والمعاصرة، لكنها في جوهرها مشبعة برغبات فلسفية وقديمة في تطويع الآخر، أو فك العزلة عن الذات. الكتاب لا يدور حول تكنولوجيا الاتصال، بل حول "فكرة" الاتصال – كحلم إنساني، وكأزمة وجودية، وكأسطورة جماعية تشكلت بين اللاهوت والإعلام والفلسفة.
ينطلق بيترز في كتابه
بسؤال بسيط ومعقد في آن: «ما معنى أن نتواصل؟» وهل فعلاً ننجح في ذلك، أم أننا نعيش
وهمًا جماعيًا بأن الرسائل تصل، وبأن الفهم يتحقق؟ من هذا السؤال، ينطلق المؤلف في
رحلة تاريخية وفلسفية غنية، يستعرض خلالها تطور تصور الإنسان لمفهوم التواصل، انطلاقًا
من المفاهيم المسيحية حول "الكلمة" الإلهية، مرورًا بالفلاسفة مثل أفلاطون
وأوغسطين وتوما الأكويني، وصولًا إلى نظريات الاتصال الحديثة في القرن العشرين.
يضع بيترز التواصل
في مواجهة مباشرة مع «الانفصال»، مع الاعتراف بالعجز البنيوي في أن "نفهم بعضنا
البعض تمامًا". هذا العجز – وفق تصوره – ليس خللًا يجب إصلاحه، بل جزء جوهري من
الوجود الإنساني. التواصل إذًا ليس حلًا، بل سؤالًا، ومصدرًا للتوترات أكثر مما هو
أداة للتقارب.
يستعرض الكاتب أربع
نماذج كبرى لفهم الاتصال عبر التاريخ:
1. «النموذج المسيحي للتجسد»: حيث يشكل المسيح
كلمة الله التي صارت جسدًا، ليجعل التواصل بين الإلهي والبشري ممكنًا. هنا، يكون الاتصال
فعل محبة ونزول، لكنه أيضًا ملغز ومحاط بالصمت المقدس.
2. «النموذج الأفلاطوني»: حيث يسعى الفيلسوف إلى
"توليد المعرفة" في نفس الآخر من خلال الحوار، لا من خلال النقل الحرفي للمعنى.
وهنا لا يكون التواصل نقلًا، بل «ولادة» داخل الروح.
3. «النموذج الرومانسي»: وهو الذي يتجلى في الحنين
لفهم تام، ولتطابق كلي بين النفس والآخر، عبر اللغة أو الفن أو العاطفة. لكنه حلم مستحيل،
كأن يعانق المرء ظله.
4. «النموذج التقني الحديث»: حيث تتحول اللغة
إلى كود، والبشر إلى أجهزة إرسال واستقبال، في نظام يرى الفهم مجرد عملية "نجاح"
في نقل الرسالة دون تشويش.
ينتقد بيترز بشدة هذا
النموذج الأخير، المرتبط بنظريات الاتصال في منتصف القرن العشرين، مثل نظرية شانون
وويفر، التي تُختزل فيها العملية الاتصالية إلى قناة ورسالة ومتلقي. يرى بيترز أن هذا
النموذج يلغي "الآخر" ويجعل منه مجرد آلة لفك الشيفرات، كما يلغي الغموض
والاختلاف والعمق الإنساني. إن "الكلام إلى الهواء" يصبح – عندئذٍ – صورة
دقيقة لما يحدث عندما لا يعود هناك من «يريد أن يسمع»، بل فقط من «يستقبل».
في المقابل، يقترح
بيترز أن نتصالح مع «فشل التواصل»، وأن نراه لا ككارثة، بل كمساحة وجودية للتأمل والتعاطف.
لا يجب أن نطمح إلى اندماج كلي، بل إلى تعايش مع الاختلاف، وإلى فهم أن "عدم الفهم"
هو أيضًا شكل من أشكال العلاقة.
يحمل الكتاب في طياته
لغة فلسفية عميقة، مشبعة بالاستعارات والمراجع اللاهوتية، وقد لا يكون سهلًا على القارئ
العادي، لكنه يمنح الباحثين والمهتمين بنظرية الاتصال والفكر الإنساني مادة غنية لإعادة
التفكير في مفاهيم تبدو لنا بديهية. يتقاطع العمل مع تأملات «بول ريكور» في الفهم والتأويل،
ويذكّر أحيانًا بتحليلات «جاك دريدا» حول الاختلاف والتأجيل اللغوي، كما يشترك مع «هانس
جورج غادامير» في الإيمان بأن الحوار لا يُقاس بمدى الوصول إلى الحقيقة، بل بمدى الانخراط
في سؤالها.
أحد أقوى عناصر الكتاب
يكمن في عنوانه ذاته: «"الكلام إلى الهواء"«، والذي يحمل في طياته مفارقة
ساخرة: نحن نتحدث، ونبعث رسائل، ونكتب، ونبث، لكننا لا نضمن أبدًا الوصول، وربما لا
نريد الوصول حقًا. ربما نحتاج فقط إلى أن نقول، حتى لو لم يسمعنا أحد.
في زمن تتسارع فيه
وسائل الإعلام، وتطغى فيه الخوارزميات على المحادثات، تبدو رسالة بيترز أكثر راهنية
من أي وقت مضى. فهل نحن نتواصل فعلاً؟ أم نمارس طقوسًا حديثة للبوح في الفراغ؟ وهل
ثمة فرق بين أن «نُفهِم» و»نُسمِع»؟ وما الذي يبقى من المعنى حين يصبح العالم متخمًا
بالكلام؟
في النهاية، يقدم «جون
دورهام بيترز» كتابًا عابرًا للتخصصات، لا يُقرأ كدليل عملي، بل كدعوة لتفكيك المسلمات
وإعادة تأمل جوهر التجربة الإنسانية
.
"Speaking into the Air" ليس فقط كتابًا عن الاتصال، بل عن «الوحدة، والفقد،
والرغبة في المعنى» – تلك الحالات التي تصنعنا كبشر، حتى عندما نكون، فقط، نتحدث إلى
الهواء.
0 التعليقات:
إرسال تعليق