الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأربعاء، يونيو 04، 2025

العدالة بالهاتف تعادل الموت بالبنزين: عبده حقي


في مشهدٍ مؤلمٍ يكشف عمق الأزمة السياسية والاجتماعية التي تخنق الجزائر، أقدم شاب يُدعى فوزي عبد القادر زقوط ، في الأول من يونيو الجاري، على محاولة إحراق نفسه أمام وزارة العدل وسط العاصمة الجزائرية. هذه الحادثة التي وثقتها عدسات كاميرات المراقبة وانتشرت كالنار في الهشيم على وسائل التواصل الاجتماعي، لم تكن مجرّد فعل فردي معزول، بل تُجسد انفجارًا صامتًا لغضب شعبي متراكم تجاه نظام قضائي يُوصف من قِبل الكثيرين بأنه واقع تحت سطوة ما يُعرف بـ"العدالة الهاتفية"، أي تلك التي تتحكم فيها التعليمات الفوقية والأوامر السياسية، وليس القانون.

زقوط، وهو رجل في الثلاثينات من عمره، ينحدر من مدينة فرندة القريبة من تيارت، قطع مئات الكيلومترات نحو الجزائر العاصمة، حاملاً بين أضلعه صرخة احتجاج أخيرة. لم يختر ساحات الإعلام الرسمي أو قاعات المحاكم لعرض مظلمته، بل اختار جسده كمنبر، والنار كلغة يائسة لمخاطبة رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون مباشرة، كما صرّح بنفسه في فيديو سجّله صديق له قبيل الحادثة، قبل أن يلوذ هذا الأخير بالفرار.

المثير في هذا الفعل، أنه لم يكن عفويًا أو ارتجاليًا، بل كان محضّرًا بعناية من حيث التوقيت والرمزية. فالمكان الذي اختاره زقوط – مقر وزارة العدل في حي الأبيار شديد التحصين أمنيًا – لم يكن صدفة، بل رسالة صارخة إلى المؤسسة التي من المفترض أن تحقّق العدالة، فإذا بها، في نظره ونظر كثيرين، تتحوّل إلى أداة في يد السلطة السياسية تُوظّفها لتصفية الحسابات أو إخماد الأصوات الخارجة عن السياق الرسمي.

ولولا تدخّل أعوان الأمن في اللحظة الأخيرة، مستعينين بمطفأة حريق، لتحوّلت هذه المحاولة إلى كارثة إنسانية مدوية. لحسن الحظ، نجا فوزي من موت محقّق، لكنه أُدخل مستشفى الحروق الكبرى في العاصمة الجزائر، حيث أفادت مصادر محلية – منها صفحة "فرندة نيوز" على فيسبوك – أن حالته الصحية مستقرة.

لكن القضية أبعد بكثير من كونها مجرد محاولة انتحار احتجاجية. إنها بمثابة اختبار حقيقي لمدى قدرة النظام الجزائري على الاستماع إلى نبض شعبه، خاصة في ما يتعلّق بملف العدالة الذي طالما كان محور اتهامات وشبهات تتعلّق بالتدخلات السياسية، وانعدام استقلالية القضاء، والتلاعب بملفات المحاكمات، وتوجيه الأحكام بناءً على تعليمات تأتي "من فوق".

فوزي زقوط، في تسجيله المصوَّر، تحدث عن "ظلمٍ" يتعرّض له، دون الإفصاح الكامل عن طبيعته، لكنه وجّه نداءه لرئيس الجمهورية، مما يُوحي بأن مؤسسات الدولة الوسيطة لم تكن فاعلة، أو بالأحرى لم تكن محلّ ثقة. وهنا يكمن جوهر الإشكال: حينما يشعر المواطن أن القضاء لم يعد ملاذًا للعدل، بل أداة للردع السياسي أو للتجاهل الإداري، فإن تصرفات يائسة مثل محاولة زقوط تصبح ممكنة، بل ومتوقعة.

ما يزيد من خطورة هذه الحادثة، أنها وقعت في بلد لم يعتد على مشاهد كهذه. فحوادث الإحراق الذاتي ليست مألوفة في الجزائر، على عكس دول مجاورة عرفت هذه الظاهرة منذ "بو عزيزي" تونس. وهذا ما يُعطي للواقعة بُعدًا خاصًا، إذ إنها قد تُمثل بداية موجة جديدة من الاحتجاجات الفردية الحادّة، التي تُعبّر عن انسداد الأفق وفقدان الثقة في المؤسسات.

إن الحديث عن "العدالة الهاتفية" لم يعد مجرد شعار في الصحافة المعارضة أو تعبيرًا ساخرًا يتداوله المواطنون في المقاهي. بل أصبح واقعًا معترفًا به حتى من داخل أروقة النظام، كما تدل بعض التسريبات والمواقف المتضاربة في قضايا سياسية وأمنية متعددة، منها ما يرتبط بسجناء الرأي أو النشطاء المدنيين أو حتى رجال الأعمال الذين وجدوا أنفسهم تارة في القصر وتارة في السجن، بحسب تقلبات موازين القوى داخل هرم السلطة.

وهذا الوضع يُعيد إلى الأذهان تحذيرات العديد من الأكاديميين والمفكرين، مثل ما جاء في كتاب "العدالة كإنصاف" للفيلسوف الأمريكي جون رولز، الذي شدد على أن العدالة لا يمكن أن تُحقّق إلا حين تكون مستقلة عن الانتماءات السياسية وتُعامل الجميع على قدم المساواة، دون انتقائية أو تمييز. ويبدو أن الجزائر، في حالتها الراهنة، لا تزال بعيدة عن تحقيق هذا المبدأ.

إن واقعة فوزي زقوط تضع الدولة الجزائرية أمام مسؤولية أخلاقية وسياسية كبيرة. فاستمرار الصمت أو محاولة احتواء الحدث كحادث معزول دون معالجة الأسباب الحقيقية قد يؤدي إلى نتائج كارثية. بل إن مجرد إنقاذه من الحرق لا يعني أن الرسالة قد أُطفئت، بل العكس، قد تكون هذه الشعلة بداية لانفجار اجتماعي صامت يُنذر بتحولات خطيرة، إن لم يتم الإصغاء لها بعقلانية وشجاعة.

ختامًا، لعلّ المأساة التي حاول الشاب فوزي زقوط أن يُعبّر بها عن معاناته، تكون ناقوس خطر حقيقي أمام السلطات الجزائرية لمراجعة سياساتها العدلية، والتخلي عن منطق التحكم عبر الهاتف، والعودة إلى دولة القانون والمؤسسات. فكل عدالة تدار من خلف الكواليس، هي عدالة لا تحمي المجتمعات، بل تدفعها نحو الحافة.

0 التعليقات: