الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأربعاء، يونيو 04، 2025

الجزائر في مرمى التوترات الإقليمية: عبده حقي


على امتداد أكثر من 2.4 مليون كيلومتر مربع، تتربع الجزائر على عرش الجغرافيا في شمال إفريقيا، كأكبر دولة في القارة الإفريقية والعالم العربي ومنطقة البحر الأبيض المتوسط. لكن هذا الامتداد الواسع لا يعني بالضرورة استقرارًا جيوسياسيًا، إذ تواجه الجزائر اليوم طوقًا ضاغطًا من التوترات المحيطة، يمتد من حدودها الغربية مع المغرب، إلى الجنوب حيث منطقة الساحل الملتهبة، فشمالًا إلى فرنسا، شريكها التاريخي المتأرجح، وشرقًا إلى الفضاء العربي الأوسع، الذي يتغير بتسارع يحاكي تغير ميزان القوى العالمية بعد الحرب في أوكرانيا.

لقد أعادت الحرب الروسية الأوكرانية منذ فبراير 2022 تشكيل خريطة الطاقة العالمية، ودفعت أوروبا إلى البحث عن بدائل سريعة للغاز الروسي. وهنا وجدت الجزائر نفسها في موقع استراتيجي بالغ الأهمية: دولة منتجة ومصدّرة للغاز الطبيعي، ترتبط بأوروبا عبر أنابيب مباشرة، لا سيما نحو إيطاليا وإسبانيا. غير أن هذا الدور لا يمنحها حرية مطلقة في رسم سياستها الخارجية، بل يحمّلها مسؤولية أكبر في الحفاظ على استقرارها الإقليمي وتقديم صورة شريك موثوق.

لكن المفارقة أن الجزائر، بدلًا من أن تكرّس هذا الزخم لإعادة التموضع بهدوء كقوة طاقة محايدة وفاعلة، دخلت في مسارات توتر متعددة، أبرزها مع جارتها المغرب، حيث بلغ التصعيد مستويات غير مسبوقة منذ قطع العلاقات الدبلوماسية عام 2021، واستمرار غلق الحدود البرية والجوية.

العلاقات المغربية الجزائرية تعاني من توتر مزمن، لكن السنوات الأخيرة شهدت تصعيدًا لافتًا. فبالإضافة إلى الخلافات القديمة بشأن قضية الصحراء المغربية، تتهم الجزائر الرباط بالتطبيع مع إسرائيل لأغراض جيوسياسية تهدد أمنها القومي، بينما ترى الرباط أن الجزائر تدعم البوليساريو بشكل علني ومباشر، في تحدٍّ لوحدة المغرب الترابية.

هذا التصعيد تجاوز الجغرافيا ليأخذ طابعًا إعلاميًا واستخباراتيًا، مع اتهامات متبادلة بالتجسس والتخريب، واستعمال المنصات الإعلامية الرسمية لتأجيج الرأي العام، ما يجعل من المصالحة بين الجانبين مسألة أكثر تعقيدًا من ذي قبل.

جنوبًا، تجد الجزائر نفسها محاطة بسلسلة من الأزمات المتلاحقة، خاصة بعد الانقلابات العسكرية في مالي (2021) والنيجر (2023). وقد حاولت الجزائر أن تلعب دور الوسيط بين السلطة الجديدة في باماكو والمجتمع الدولي، لكنها فوجئت بإقصائها من بعض المبادرات الإقليمية، مثل "تحالف دول الساحل" الجديد الذي تقوده بوركينا فاسو ومالي والنيجر، دون إشراكها رغم ارتباطها الوثيق بالمنطقة.

كما أن رفض النيجر استقبال وفد جزائري رسمي في 2024 كان مؤشرا واضحا على تراجع ثقل الجزائر في منطقة طالما اعتبرتها امتدادًا استراتيجيًا لأمنها القومي.

على الرغم من التصريحات المتكررة من باريس والجزائر بشأن الرغبة في "طي صفحة الماضي"، فإن العلاقة بين البلدين لم تخرج بعد من أسر التاريخ الاستعماري. ملفات الذاكرة، وأزمة التأشيرات، والاتهامات الفرنسية حول تدخل الجزائر في شؤون الجالية الجزائرية بفرنسا، ظلت تُلقي بظلالها على أي تقارب محتمل.

ومع تزايد النفوذ التركي والصيني في شمال إفريقيا، باتت فرنسا ترى في تراجع علاقاتها مع الجزائر خطرًا مضاعفًا، في حين تسعى الجزائر إلى تنويع شراكاتها، ما بين موسكو وبكين، دون أن تقطع حبالها تمامًا مع باريس.

لطالما عُرفت السياسة الخارجية الجزائرية، منذ عهد هواري بومدين، بمبدأ "عدم الانحياز" والدفاع عن قضايا "الشعوب المستعمرة". لكن الواقع الحالي يُظهر انزياحًا تدريجيًا عن هذا المبدأ. فقد دعمت الجزائر علنًا الانقلابات في الساحل، ورفضت وصفها بالانقلابات، ونسجت علاقات أمنية وعسكرية مع موسكو في توقيت شديد الحساسية.

في المقابل، تُتهم الجزائر من قِبل بعض المراقبين بمحاولة "تصدير أزماتها الداخلية" عبر افتعال توترات خارجية، خاصة في ظل أزمات اقتصادية واجتماعية متزايدة، وتضييق متصاعد على الحريات الإعلامية والسياسية، بحسب تقارير دولية.

من جهة أخرى، لا يمكن فهم التوترات الخارجية الجزائرية دون الربط بينها وبين الوضع الداخلي. فارتفاع معدلات البطالة، وتراجع عائدات النفط بسبب التقلبات السعرية، والتفاوتات الاجتماعية الصارخة، تُشكّل قنابل موقوتة قد تحدّ من قدرة الجزائر على المناورة الخارجية. فالقوة الدبلوماسية تحتاج إلى قاعدة داخلية صلبة، وهو ما يبدو مفقودًا في المشهد الجزائري الحالي.

في ضوء كل هذه المعطيات، تبدو الجزائر في مفترق طرق حساس: إما أن تختار طريق التهدئة، وتُعيد ضبط علاقاتها الخارجية بما ينسجم مع تحولات العالم ومصالحها الاقتصادية والأمنية، أو أن تستمر في سياسة الحذر المصحوبة بالتصعيد الظرفي، ما سيؤدي إلى مزيد من العزلة والتوتر في محيط إقليمي متقلب بطبعه.

فالسؤال الحقيقي اليوم ليس فقط: "ما هي التهديدات التي تواجه الجزائر؟" بل أيضًا: "كيف تفهم الجزائر ذاتها ودورها في عالم يتغير بسرعة مذهلة؟"

0 التعليقات: