الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


السبت، يونيو 14، 2025

ويكيبيديا بين الحياد الرقمي واندفاع الذكاء الاصطناعي

 


ما إن بدأت ويكيبيديا بتجربة ميزة الملخصات المبنية على الذكاء الاصطناعي، حتى اشتعلت النيران في كواليس المجتمع التحريري الذي طالما اعتبر نفسه خط الدفاع الأول عن مصداقية المحتوى المعرفي العالمي. خلال أسبوعين فقط، كُشف عن الشرخ العميق بين طموحات التقنية الحديثة والحذر التحريري التقليدي، ليُعلن بعدها عن وقف التجربة. لا مؤقتًا فحسب، بل بقناعة استدعتها الاحتجاجات.

كانت التجربة بسيطة ظاهريًا: ملخصات تظهر في أعلى المقالات، تتيح للقارئ لمحة سريعة دون الحاجة للغوص في كامل النص. لكنها لم تكن كذلك في أعين المحررين. وُصفت الفكرة بـ"الخطيرة" و"المهينة"، ورأى فيها كثيرون تهديدًا مباشرًا لمصداقية ويكيبيديا كمصدر بشري وتشاركي للمعرفة، وليس مختبرًا لتقنيات توليد النصوص.

"لسنا غوغل"، هكذا قالها أحد المحررين، مجسدًا موقفًا لا يعارض التطور بحد ذاته، بل الأسلوب الذي فُرضت به التجربة. فالمحررون المتطوعون – الذين يشكلون العمود الفقري لويكيبيديا – فوجئوا بتنفيذ قرار تقني لم يشاركوا فيه، وجاء من موظف واحد داخل مؤسسة ويكيميديا. بدا الأمر أشبه بانقلاب ناعم على مبدأ "التحرير الجماعي"، وهو جوهر ويكيبيديا منذ نشأتها.

لكن، لماذا كل هذا الغضب؟ في الظاهر، تتعلّق الأزمة بالتقنية، لكنها في جوهرها تعبير عن صراع أعمق بين القيم التحريرية والمعايير التقنية. مؤسسة ويكيميديا برّرت التجربة استنادًا إلى بيانات تقول إن معظم قراء اللغة الإنجليزية يقرؤون بمستوى مراهق عمره 14 أو 15 عامًا. من هنا، فالنصوص التلخيصية قد تكون مدخلاً مفيدًا. غير أن هذه الحجة، رغم وجاهتها، لم تُقنع مجتمع المحررين الذين اعتبروا أن التبسيط لا يبرّر التخلي عن المصداقية أو التشاركية.

وقد ذكّرنا هذا الجدل بأن الذكاء الاصطناعي، مهما بدا ذكيًا أو دقيقًا، لا يزال في نظر كثيرين عاجزًا عن فهم السياق، التحيّز، النبرة، والتاريخ التحريري لموسوعة مثل ويكيبيديا. الملخص قد يبدو بريئًا، لكنه – في حال الخطأ – قد يُضلّل قارئًا أو يُفسد مقالة بأكملها.

ورغم إيقاف المشروع، لم تُغلق المؤسسة الباب بالكامل. بل أكدت أنها قد تعود إلى فكرة دمج أدوات الذكاء الاصطناعي مستقبلاً، شرط أن يتم الأمر بشفافية وبمشاركة صريحة للمجتمع التحريري. بمعنى آخر، فإن الدرس الذي خرجت به ويكيميديا لم يكن "رفض الذكاء الاصطناعي"، بل "ضرورة إشراك البشر حين يستخدم".

إن ما حدث في ويكيبيديا يختصر سؤالًا جوهريًا نواجهه جميعًا: هل نقبل تقنيات الذكاء الاصطناعي كبديل عن البشر، أم كشريك خاضع للمساءلة؟ في عالم تتحكم فيه الخوارزميات، ما تزال الكلمة الحرة، المدققة، والمسؤولة، بحاجة لحارس بشري، ولو من خلف شاشة حاسوب.

ويكيبيديا لم تسقط في فخ الذكاء الاصطناعي، بل استعادت – ولو مؤقتًا – وجهها البشري. ومن يعرف ويكيبيديا، يعرف أن هذا الوجه هو ما جعلها أكبر موسوعة حرة في العالم.



0 التعليقات: