منذ سنوات قليلة فقط، لم أكن أتصور أن بضعة أسطر على شاشة هاتفي المحمول قد تغيّر مجرى يومي، أو تصوغ قناعاتي السياسية، أو تفتح شهيتي على احتجاج لم أكن لأشاركه لولا "تغريدة" عابرة أو "عنوان" استفزازي. اليوم، كصحفي مغربي مهتم بالإعلام الرقمي، صرت أؤمن بأن الصحافة الرقمية لم تعد مجرد وسيط لنقل المعلومة، بل أصبحت عاملاً مركزياً في إنتاج الرأي العام، وتوجيه الوعي الجماعي، بل والتأثير في صُناع القرار أنفسهم.
في ظل التحول الرقمي
الذي يجتاح العالم، تغيرت بنية الإعلام جذرياً. انتقلنا من منابر تُحررها نخبة محدودة
إلى فضاء مفتوح تتقاطع فيه الكتابة مع الخوارزميات، والتحرير مع استراتيجيات الاستهداف
الرقمي. أصبح المتلقي ليس فقط مستهلكًا للمحتوى، بل مشاركًا في إنتاجه، أو بالأحرى،
في إعادة تدويره وانتشاره ضمن منطق "الترند". هكذا أصبح الرأي العام المعاصر،
في جزء منه، نتاجاً رقمياً مشتركاً، تم تشكيله داخل دوائر التواصل الاجتماعي، لا خلف
أبواب تحرير مغلقة.
ولا يمكننا تناول هذا
التحول دون الوقوف على مفهوم "التحيّز الخوارزمي" الذي أشار إليه الباحث
الأمريكي إليوت موريس في تحليله لتأثير الخوارزميات على تغذية الأخبار. فقد أصبحت المنصات
الرقمية لا تعرض لنا العالم كما هو، بل كما نريده نحن، أو كما يُراد لنا أن نراه. الأمر
شبيه بمرآة سحرية لا تعكس الواقع، بل تعيد تشكيله وفق اهتماماتنا، ومخاوفنا، وحتى تحاملاتنا
اللاواعية. وهنا يكمن الخطر الأكبر: حين يصبح الخبر مُصممًا خصيصًا لنا، يفقد في كثير
من الأحيان موضوعيته، ويتحول إلى أداة تأكيد لا اكتشاف.
في السياق المغربي،
لم يكن لهذا التحول أن يمر دون آثاره الواضحة. فلقد شاهدنا كيف أصبحت مقالات رقمية،
أو فيديوهات "يوتيوبر" ذوي متابعين كثّر، تخلق جدلاً وطنياً، وتدفع المؤسسات
إلى الرد والتبرير، بل والتراجع أحياناً. لم تعد الصحافة التقليدية وحدها من يشكّل
الرأي العام، بل أصبح "المؤثرون" الرقميون شركاء في هذه المعركة الناعمة
على عقول الناس. وهذا ما يدفعنا للتساؤل: هل نحن أمام ديمقراطية إعلامية موسعة، أم
أمام فوضى سرديات تتلاعب بالعقول باسم الحرية الرقمية؟
الناقد الإعلامي الفرنسي
"إيغناسيو رامونيه"، في كتابه المرجعي *"تطرّف الإعلام"*، نبّه
إلى هذه المخاطر حين تحدّث عن "الاستبداد الناعم للمعلومة"، حيث لا يُفرض
الرأي من فوق، بل يُحقن تدريجياً عبر قنوات رقمية تعطي وهماً بالاختيار والحرية، بينما
هي تفرض سردية واحدة مقنّعة بألف صوت.
ورغم ذلك، لا يمكنني
أن أنكر الوجه الآخر لهذا التحول. فقد ساهم الإعلام الرقمي في كسر احتكار المؤسسات
الكبرى على المعلومة، وفتح المجال أمام فاعلين جدد، وأتاح لجماعات مهمّشة التعبير عن
قضاياها وتدويلها. الحراك الاجتماعي في الريف، أو حركات مناهضة التطبيع، أو نقاشات
الإصلاح التعليمي، كلّها أمثلة على مواضيع صنعتها الصحافة الرقمية، أو ساهمت على الأقل
في تعميمها وترسيخها في الوعي الجماعي.
لكن المشكلة ليست في
الوسيلة الرقمية ذاتها، بل في طبيعة العلاقة التي تربط الصحفي الرقمي بجمهوره. فبدل
أن نسعى إلى تأكيد الحقائق، صار البعض يستسهل الإثارة والاختزال، لأنهما أسرع طريق
نحو النقرات والمشاركة. لقد تراجع دور "الصحافة الاستقصائية" الجادة لصالح
"الصحافة السريعة"، في عالم يبدو فيه الزمن الرقمي أسرع من قدرة العقل على
الفهم. هذا ما يجعل من الضروري إعادة التفكير في تكوين الصحفيين الجدد، لا فقط على
مستوى الأدوات، بل في ما هو أعمق: أخلاقيات المهنة في العصر الرقمي.
ربما يشبه الأمر ما
وصفه "جون دورهام بيترز" في كتابه "Speaking into the Air" حين تحدّث عن وهم التواصل، حيث نعتقد أننا
"نتواصل" فقط لأننا نتبادل الكلمات. اليوم، يعتقد الكثيرون أنهم "يعرفون"
فقط لأنهم قرأوا خبراً على فيسبوك أو تيك توك. لكن المعرفة تقتضي المسافة، والتمحيص،
والعودة إلى السياقات، وهذا ما تضعه الصحافة الرقمية أحيانًا في موضع التهديد.
أكتب كل هذا، لأنني
مؤمن أن الرأي العام المغربي يستحق إعلامًا رقمياً يحترم ذكاءه، لا يُلهيه بالتفاهة،
ولا يُضلله بالاختزال. نحتاج إلى صحفيين يفكرون كما يكتبون، ويكتبون كما يتحرّون. ولعل
المسؤولية لم تعد تقع فقط على الصحفي، بل على المتلقي أيضاً. فنحن جميعاً اليوم، نُنتج
ونستهلك الإعلام في آن، وما نختاره أن نُصدقه وننشره، يحدد شكل هذا الرأي العام الذي
نتحدث عنه.
في زمن تتناسل فيه
الحقائق وتتشظى، أعتقد أن الصحافة الرقمية قد تكون نعمة إذا أدركنا خطورتها، ونقمة
إذا تركناها تكتبنا بدل أن نكتبها.
0 التعليقات:
إرسال تعليق