الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


السبت، يونيو 07، 2025

انهيار اقتصادي والدولة تستهلك آخر ما تبقى من احتياطاتها: ترجمة عبده حقي


تشهد الجزائر في الآونة الأخيرة وضعًا ماليًا واقتصاديًا بالغ الخطورة، مع تسارع مقلق لانهيار قيمة الدينار أمام العملات الأجنبية، وعلى رأسها اليورو، الذي تجاوز حاجز 262 دينارًا في السوق الموازية، في سابقة لم تعرفها البلاد من قبل. هذا الانهيار المتواصل لا يعكس فقط أزمة عملة، بل يفضح في جوهره هشاشة عميقة في بنية الاقتصاد الجزائري وسياسات الدولة التي باتت، حسب مراقبين، تقود البلاد نحو شبح "الانفجار الاقتصادي".

في السوق السوداء، حيث تتحكم آليات العرض والطلب دون تدخل رسمي، لا تتوقف العملة الوطنية عن التراجع منذ ديسمبر 2019، تاريخ صعود عبد المجيد تبون إلى الحكم، مرورًا بأزمات سياسية، ووصولًا إلى اختلالات هيكلية في السياسة الاقتصادية. ففي ديسمبر 2019، كان اليورو يعادل 204 دنانير، ليرتفع إلى 214 في 2021، ثم 227 في 2022، و244 في 2024، واليوم يتجاوز 261 دينارًا. هذه السلسلة من التراجعات تكشف فشل الدولة في تأمين استقرار نقدي أو حتى تهدئة تقلبات السوق.

لكن ما يزيد الطين بلة هو الفارق الكبير بين السوق الرسمية والسوق الموازية. فبينما حددت السلطات سعر اليورو بـ149 دينارًا، تبلغ قيمته في السوق غير الرسمية أكثر من 260 دينارًا. هذا الفرق الهائل الذي يتجاوز 110 دنانير، لا يعكس سوى تدخل مصطنع من الدولة عبر سياسة دعم العملة داخليًا، على حساب استنزاف احتياطي الصرف الخارجي.

ولفهم خطورة هذا المسار، يجب التذكير بأن البلدان التي شهدت انهيارًا مماثلًا لعملاتها انتهى بها المطاف إلى أزمات اجتماعية حادة أو حتى إفلاس اقتصادي شامل. من زيمبابوي وفنزويلا، إلى مصر وتركيا ونيجيريا، القائمة طويلة. في كل هذه التجارب، قادت العملة الضعيفة إلى انفلات في التضخم، تراجع حاد في القدرة الشرائية، انهيار في الاستثمار، بطالة، ومظاهرات اجتماعية. فكلما تراجعت قيمة العملة، ارتفعت كلفة الاستيراد، وتآكلت مداخيل المواطنين، وازداد الضغط على الموازنة العامة.

في الجزائر، تكشف الأرقام الرسمية تراجعًا في سعر الدينار بنسبة 6.1% فقط منذ بداية 2025، لكن هذا الرقم يغطي الحقيقة: فالدولة الجزائرية لم تعد قادرة على دعم عملتها بنفس القوة السابقة. السبب الرئيسي يعود إلى انخفاض حاد في مداخيل النفط والغاز، الموردين الأساسيين لخزينة الدولة. ففي أبريل 2025، هبط سعر برميل النفط إلى ما دون 70 دولارًا، ليستقر في حدود 64 دولارًا، مما أدى إلى تراجع مقلق في احتياطي الصرف الذي كان يُتوقع أن يبلغ 72 مليار دولار مع نهاية 2024.

وتُطرح اليوم تساؤلات ملحة: إلى متى ستستطيع الجزائر دعم الدينار دون المساس ببقية الاحتياطيات الاستراتيجية؟ وهل تملك الدولة بالفعل خطة بديلة قادرة على إنقاذ ما يمكن إنقاذه؟

السيناريوهات المتوقعة ليست مطمئنة. وفقًا للتقديرات، إذا استمر الانهيار بنفس الوتيرة الحالية، فقد يتجاوز سعر اليورو 300 دينار في 2026، وربما يصل إلى 350 في 2027، وهو ما يعني أن البلاد تدخل مرحلة الانكماش النقدي الحاد، شبيهة بما حدث في فنزويلا. ففي حال استنفاد الاحتياطي النقدي والذهبي بحلول 2028، قد تواجه الجزائر أزمة تمويل أساسية، تُفقدها السيطرة على أسعار السلع الأساسية، وتدفعها نحو الاقتراض الخارجي بشروط قاسية، أو في أسوأ الأحوال، الإفلاس الكامل.

ومع ارتفاع عدد سكان الجزائر إلى قرابة 50 مليون نسمة بحلول 2029، فإن أزمة اقتصادية بهذا الحجم ستتجاوز حدود الاقتصاد لتتحول إلى أزمة سياسية واجتماعية حادة، تنذر باضطرابات داخلية، وتزعزع الاستقرار العام.

الحل؟ يتطلب الأمر تحولًا جذريًا في السياسات العامة. لم تعد سياسة الدعم المكثف للمؤسسات العسكرية والإدارية مُجدية، بل باتت عبئًا. الجزائر تحتاج إلى تحفيز الاقتصاد الإنتاجي، وتشجيع الاستثمار الوطني والدولي، وفتح قطاعات جديدة كالطاقة المتجددة والصناعات التحويلية. كما يجب تبني سياسة مالية أكثر واقعية، تقوم على تقليص العجز، وتحسين مناخ الأعمال، وتخفيف القيود البيروقراطية على القطاع الخاص.

إن اللحظة التي تمر بها الجزائر الآن ليست عابرة، ولا تقبل التسويف. هي لحظة مفصلية تتطلب شجاعة في القرار، وتخليًا عن منطق التسلط المالي، وإدراكًا بأن استمرار الانهيار سيكلف البلاد مستقبلها بأكمله.

فالتاريخ، كما يقول المثل، لا يرحم من يتجاهل دروسه.


0 التعليقات: