الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأحد، يونيو 08، 2025

من يُحركنا في لعبة التفاعل الرقمي؟ عبده حقي


كنتُ أعتقد، لوهلة، أنّ النقر على زر الإعجاب أو التفاعل بإيموجي ضاحك ليس إلا انعكاسًا تلقائيًّا لما نشعر به أمام منشور عابر. ولكن شيئًا فشيئًا، بدأتُ أرى أن الأمر ليس بهذه البراءة؛ فثمة لعبة متقنة تدير هذه التفاعلات، تقودنا لا لنعبّر عمّا نشعر، بل لنُنتج ما تريده المنصّات: المزيد من البقاء، المزيد من الردود، والمزيد من البيانات.

ما يحدث على فيسبوك، إنستغرام، تيك توك، ويوتيوب ليس تفاعلًا بريئًا، بل "لعبنة" (Gamification)  محكمة لمشاعرنا الرقمية. اللعبنة، في تعريفها الأساسي كما يطرحه الباحث  Sebastian Deterding ، سيباستيان ديتردينغ هي استخدام عناصر من تصميم الألعاب في سياقات لا ترتبط أصلًا بالألعاب، بهدف تحفيز السلوك. وعندما تُمزج هذه التقنية مع خوارزميات الذكاء الاصطناعي ومؤشرات الإدمان النفسي، تتحوّل المنصّات إلى ساحات لعب جماعية، نحن وقودها، و"اللايكات" والمشاركات أدوات ضبط إيقاعها.

هل لاحظتم كيف أصبحت كل منشوراتنا تقريبًا تطلب منّا "التفاعل"، كأن الكاتب لا يبحث عن رأينا بقدر ما ينتظر إشعارًا في ركن هاتفه؟ هذا ما يسميه الباحث Yu-kai Chou في نموذجه "Octalysis" بالدافع الخارجي المحفّز عبر المكافآت. فالمنصة، ومن خلفها الذكاء السلوكي، تُحرك المستخدمين كما يُحرّك لاعب محترف شخصيته الافتراضية عبر مراحل متقدمة، بمكافآت وهمية، وصعود في "لوائح الشرف الرقمية".

بل إنّنا – شئنا أم أبينا – بدأنا نحيا في دوامة من "التراكم التفاعلي"، حيث لا يُقيّم المحتوى بجودته الفكرية أو الجمالية، بل بمعدّل التفاعل. وهكذا، تجد نفسك تميل لا شعوريًّا إلى إنتاج ما يَجذب التفاعل لا ما يُعبر عنك فعليًّا. تمامًا كما يفعل اللاعب الذي يغيّر استراتيجيته فقط لكي يربح مزيدًا من النقاط، لا لأنه مقتنع بما يفعل.

أكاديميًا، تُشير دراسة منشورة في Journal of Consumer Research مجلة أبحاث المستهلك عام 2021 إلى أن "اللعبنة الرقمية" تؤدي إلى ما يُعرف بـ"التحفيز القصير المدى"، والذي قد يزيد من المشاركة الظاهرية، لكنه يقلّل في العمق من جودة الانخراط الفكري. فنحن نكتب أكثر، نعلّق أكثر، لكننا نفكر أقل. إنّها معادلة تجارية رابحة للمنصات، لكنها مدمّرة لثقافة النقاش.

وكمغربيّ يعيش هذا التحوّل، لا أستطيع أن أتجاهل أثر اللعبنة على المشهد الرقمي في بلدي. رأيت بنفسي كيف تحوّلت بعض الصفحات إلى ساحات لتصنيع الرأي العام، عبر ما يُشبه تحديات تفاعلية أو أسئلة مستفزة تُدغدغ الانفعال. فبدل أن تُثير القضايا السياسية نقاشًا واعيًا، نجدها تُقدّم عبر "ألعاب استقطاب"، هدفها تحصيل آلاف التعليقات، لا الوصول إلى وعي جمعي.

ويزداد الأمر خطورة عندما تتبنى وسائل الإعلام نفسها هذه الاستراتيجية، فتتحوّل العناوين إلى ما يشبه "الطُعم الرقمي " clickbait، وتُقاس المصداقية بعدد المشاهدات. ألم تُشر  Shoshana Zuboff  في كتابها "عصر رأسمالية المراقبة" إلى أن الاقتصاد الجديد لا يبيع منتجات، بل يبيع سلوكنا نفسه كسلعة؟ في هذا السياق، تصبح اللعبنة ليست فقط أداة للتحفيز، بل شكلًا من السيطرة اللطيفة، تُقوّض تدريجيًّا حريتنا الذاتية باسم التسلية.

إننا أمام معضلة مزدوجة: من جهة، تمنحنا اللعبنة إحساسًا زائفًا بالتمكين – كأنّنا نملك السيطرة على اللعبة، بينما الواقع هو العكس. ومن جهة أخرى، تُعزز السلوكيات القطيعية، فنتفاعل حيث يتفاعل الآخرون، ونُشارك لا لأننا مقتنعون، بل لأننا نخشى أن نفقد إيقاع اللعبة.

فهل من مخرج؟ ربما يبدأ هذا المخرج من الوعي النقدي. أن نُدرك – كما قال جان بودريار – أن الواقع لم يعد يُمثَّل، بل يُحاكى، وأننا نعيش في عالم تُنتج فيه "المشاعر المؤتمتة" لا المشاعر الأصيلة. وأن نعيد – كمستخدمين – النظر في علاقتنا بهذه التفاعلات، وأن نسأل أنفسنا دائمًا: لمن نلعب؟ ولماذا؟ وماذا نخسر عندما نربح لايكًا جديدًا؟

في النهاية، ربما علينا أن نكسر اللعبة، أو على الأقل أن نتعلّم أن نلعبها بوعي… لأنّنا إذا لم نفعل، فسنُحكم بسلاسل الحرية ذاتها التي وعدتنا بها هذه المنصّات.

0 التعليقات: