في كتابه المرجعي الصادر سنة 2001 والمعنون "لغة الوسائط الجديدة
" (The Language of New Media), يرسم الباحث الروسي-الأمريكي ليف مانوفيتش معالم نظرية جديدة لفهم الوسائط الرقمية، واضعًا الأسس المفاهيمية لما يُعرف اليوم بـ"دراسات الوسائط الجديدة". لا يتوقف مانوفيتش عند حدود وصف التحولات
التقنية التي أحدثها العصر الرقمي، بل يسعى جاهدًا إلى تفكيك البنية الجمالية واللغوية التي تَسِم هذه الوسائط، ويُعيد تأطير علاقتها بتاريخ الفن، والسينما، والإعلام، والبرمجيات.يستند مانوفيتش في
مقاربته على خلفية غنية في الدراسات السينمائية وتاريخ الفن، حيث يرى في الوسائط الجديدة
امتدادًا، لا قطيعة، مع الوسائط السابقة، خصوصًا السينما. فالبرامج، والواجهات الرسومية،
وتقنيات التحرير الرقمي، كلها، في رأيه، تمثل تطورًا للغة بصرية سبق للسينما أن أرست
دعائمها في القرن العشرين.
يحدد مانوفيتش خمس
خصائص أساسية تُميز الوسائط الجديدة عن نظيراتها التقليدية:
1. التمثيل العددي (Numerical Representation): إذ تُختزل جميع وسائط التعبير – نصوص، صور،
أصوات – إلى رموز رقمية يمكن معالجتها برمجيًا.
2. «التركيبية (Modularity):» كل عنصر من عناصر المحتوى الرقمي (كالصورة
أو النص أو الفيديو) يمكن فصله وتعديله بمعزل عن بقية العناصر.
3. «الأتمتة (Automation):» تسمح البرمجيات بمعالجة المعلومات وإنتاج
المحتوى دون تدخل بشري مباشر، كما يحدث في توليد الصور، أو الترجمة الآلية، أو اقتراحات
الخوارزميات.
4. «التنوع (Variability):» لا يوجد نص رقمي نهائي؛ إذ يمكن إنتاج نسخ
لامتناهية من نفس العمل بناءً على تفاعلات المستخدم، أو تغييرات في قاعدة البيانات.
5. «الترميز الثقافي (Transcoding):» يشير إلى العلاقة المعقدة بين منطق البرمجيات
من جهة، والبنية الثقافية من جهة أخرى، أي كيف تؤثر التكنولوجيا على إدراكنا وممارساتنا
الثقافية.
واحدة من أبرز أفكار
مانوفيتش هي تحويله لاهتمام دراسات الإعلام من الشاشة إلى البرمجية. فبدلاً من التركيز
على محتوى الوسائط، يلفت الانتباه إلى البرمجيات التي تُنتج ذلك المحتوى، مثل "Adobe
Photoshop" أو "Final Cut
Pro"،
باعتبارها أدوات تشكيل جمالية، لا تقل أهمية عن الكاميرا في السينما الكلاسيكية.
وهنا يُقارن مانوفيتش
بين السينما، التي يراها وسيطًا يعتمد على التسلسل الخطي للصور (خطاب سردي منظم)، وبين
الوسائط الجديدة التي تتصف بالتفاعل، والاختيار، وتعدد المسارات. فبدلاً من المتلقي
السلبي في السينما، يظهر "المستخدم" في الوسائط الجديدة كفاعل مشارك، يختار،
ويعدل، ويتفاعل.
لا يُخفي مانوفيتش
قلقه من الاستخدام المفرط لمفهوم "التفاعلية"، والذي يرى أنه قد يبالغ أحيانًا
في تقدير حرية المستخدم، في حين أن البرمجيات ذاتها تفرض خيارات محدودة مسبقًا. أي
أن "الحرية الرقمية" في كثير من الأحيان وهمية، لأنها مبرمجة مسبقًا ضمن
منطق رياضي وثقافي معين.
ويذهب أبعد من ذلك
حين يربط الوسائط الجديدة بمنطق الرأسمالية المعاصرة، حيث تصبح البرمجيات أدوات للتسليع
والتحكم، مثلما تُستخدم في تتبع المستخدمين وتوجيه سلوكهم.
رغم مرور أكثر من عقدين
على نشر الكتاب، لا يزال *"لغة الوسائط الجديدة"* مرجعًا تأسيسيًا في مجال
دراسات الوسائط الرقمية. ومع ذلك، فإن بعض النقاد يعتبرون أن الكتاب قد تجاوزه الزمن
في بعض الجوانب، خصوصًا في ظل ظهور تقنيات الذكاء الاصطناعي، وتعلم الآلة، والميتافيرس،
التي لم تكن مطروحة حينها بهذا الزخم.
إلا أن مانوفيتش نفسه
عاد في كتابات لاحقة، مثل *"Software Takes Command"* (2013)، لتحديث أفكاره، مؤكدًا أن
"البرمجيات هي لغة العصر"، وأن فهم الوسائط الرقمية يتطلب تفكيك العلاقات
بين التصميم التفاعلي، والبيانات، والمستخدم.
تكمن أهمية كتاب
*"لغة الوسائط الجديدة"* في كونه لا يكتفي بتفسير الواقع الرقمي، بل يحاول
بناء *نحو لغوي* جديد له، يعيد التفكير في مفاهيم "النص"، و"المؤلف"،
و"الزمن"، و"المكان"، و"التفاعل". إنه عمل تأسيسي يُجبرنا
على مساءلة علاقتنا اليومية بالصور، والشاشات، والخوارزميات، وكل ما يشكل خلفية وجودنا
الرقمي اليوم.
إن مانوفيتش لا يقدم
إجابات نهائية، بل يفتح فضاءً نقديًا لفهم كيف تُعاد صياغة الثقافة الإنسانية بلغة
لم تعد تُكتب بالحبر، بل بالكود البرمجي.
0 التعليقات:
إرسال تعليق