أمضيت طفولتي في زوايا المكتبات العمومية، وبين رفوف الكتب النفيسة ، كنت أؤمن أن الإنسان هو ما يقرأ. كانت هذه العبارة - "نحن ما نقرأ" - تُتداول في مدارسنا ، في صفحات الصحف الثقافية، وحتى على أغلفة الكتب، كأنها نبوءة تأسيسية لوعي جماعي يتغذى من الكلمة ويشتق معناه من الجملة المكتوبة.
في المغرب، كما في غيره من بقاع العالم العربي، شكلت القراءة مرايانا، وكانت الكتب تفتح لنا النوافذ على عوالم لا يبلغها الجسد في الواقع، ولكن يحلق إليها العقل بلا أجنحة.
غير أن شيئاً فشيئاً،
تغيرت قواعد اللعبة. بدأت ألاحظ أن القراءة لم تعد وحدها معياراً لتحديد هوية الإنسان
الثقافية. لم يعد السؤال: "ماذا تقرأ؟"، بل صار شيئاً آخر، أكثر تعقيداً
وربما أكثر تجريداً: "كيف تُشفِّر؟". هذه الفكرة، التي ربما بدت لي في البداية
طوباوية أو مستعارة من لغة المهندسين، باتت اليوم مفتاحاً لفهم المرحلة القادمة من
تاريخ البشرية.
أن ننتمي إلى عصر
"نحن ما نُشفِّر" يعني أن الهوية المعرفية لم تعد تُصاغ فقط من خلال مضمون
النصوص، بل أيضاً من خلال كيفية معالجتنا لها، ترجمتها، ترميزها، واستخدامها ضمن أنظمة
ذكية تُحوِّل كل ما نكتبه ونقوله إلى بيانات. لقد أصبحنا، شاء البعض أم أبى، كائنات
تُنتِج البيانات وتُعاد صياغتنا نحن أنفسنا كبُنى بياناتية.
أول مرة واجهت فيها
هذه الحقيقة وجهاً لوجه كانت حين اشتغلت على مشروع بسيط لتحويل نصوص شعرية إلى تجربة
رقمية تفاعلية. استعملت خوارزميات لتحليل الإيقاع والمعنى، وتحويل القصيدة إلى خريطة
بصرية تتحرك بتفاعل القارئ. شعرت حينها أنني لا أقرأ القصيدة، بل أفك شيفرتها. لم أعد
مجرد متلقٍ، بل تحولت إلى مشارك في إنتاج معنى جديد للنص. لقد صارت علاقتي بالمعرفة
تشبه العلاقة بين المُرمِّز والحياة: لا تكتفي بالفهم، بل تسعى إلى الترجمة، وإلى توليد
احتمالات أخرى.
إن هذا التحول ليس
محصوراً في المجال الثقافي فحسب، بل يشمل التربية، الاقتصاد، وحتى الأخلاق. فاليوم،
أطفالنا لا يكبرون على كتب الجيب بل على الشاشات. يتعلمون التفاعل مع الرموز، الإشارات،
والأوامر الرقمية. ونحن الآباء والمربون، أصبحنا مطالبين بأن نعيد تعريف التعليم ليواكب
هذه الطفرة. فإذا كانت القراءة تُعلِّم الفهم، فإن التشفير يُعلِّم البناء. وإذا كانت
القراءة تفتح الذهن، فإن التشفير يُنشئ البنى التي تُوجِّه الذهن ذاته.
ربما كان جان بودريار
محقاً حين قال إننا نعيش في عصر المحاكاة، حيث الصور والرموز تفوق الواقع في الحضور
والتأثير. ولكن في عصرنا، لم تعد المحاكاة مجرد صورة، بل أصبحت نموذجاً رياضياً قابلاً
للبرمجة، يُعيد إنتاج الواقع وفق منطق الخوارزمية. في هذا السياق، يصبح التشفير أداة
فلسفية بقدر ما هو تقنية.
ومع ذلك، لا أخفي قلقي.
فنحن ننتقل من عالم يمكننا فيه مساءلة الكاتب، إلى فضاء لا نعرف فيه مَن كتب الكود،
ولا بأي نية. أصبحت الشفافية معطوبة، والسلطة متخفية في طيات الكود البرمجي. من يملك
الخوارزمية، يملك سرد العالم. وهذا يطرح سؤالاً جوهرياً حول الأخلاق، حول من يُقرّر
الصواب والخطأ عندما تُسلَّم القرارات إلى الذكاء الاصطناعي.
في المغرب،
حيث ما
زال الصراع قائماً بين الورقي والرقمي، بين التقليد والحداثة، أرى أن الوقت قد حان
لنُعيد تعريف التعليم والتثقيف. لا يكفي أن نحفّز أطفالنا على القراءة، بل يجب أيضاً
أن نُدرّبهم على التفكير كمهندسين، كمُشفِّرين، كصانعي أدوات. فالمعرفة القادمة لا
تأتي فقط من الكتب، بل من فهم البنية التي تولِّد المعرفة ذاتها.
لن أنكر أنني ما زلت
أشتاق إلى الكتاب الورقي، إلى رائحة الحبر، وإلى لحظات التأمل أمام نص شعري بصيغة الماضي.
لكني أيضاً أؤمن أن المستقبل يحتاج منا شيئا أكثر من الحنين. يحتاج منا أن نُدرك أن
التشفير، في جوهره، ليس قتلًا للقراءة، بل امتداد لها بلغة جديدة.
وهكذا، أجدني أعيش
بين زمنين: زمن "نحن ما نقرأ"، الذي شكل وجداني،
وزمن "نحن ما نُشفِّر"، الذي يطلب منا أن نُعيد اختراع ذواتنا. ربما
لن أُمسك بكل مفاتيح هذا الانتقال، لكن يكفيني أن أعيه، أن أُسائل شروطه، وأن أساهم
في ترسيخ ثقافة لا تنسى جذورها وهي تبني مستقبلها، بل تسلك دربها وفي يدها كتاب، وفي
اليد الأخرى كود.
0 التعليقات:
إرسال تعليق