الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الخميس، يونيو 12، 2025

عندما تكتب الكرة نصها الرقمي المترابط : عبده حقي


لطالما نظرت إلى كرة القدم على أنها أكثر من مجرد رياضة تمارس بالأرجل والرؤوس . لقد كانت ساحة اللعب بالنسبة لي مثل صفحة بيضاء، تُكتب عليها حكايات وروايات جماعية بلغة القدم، والمراوغات، والمسارات الخفية للكرة. لم أكن أعلم حينها أن هذا الانجذاب العاطفي والبصري، سيتحول في وقت لاحق إلى مدخل فلسفي لرؤية النصوص الأدبية الرقمية من زاوية لم تكن مألوفة.

واليوم، وأنا أتأمل ظاهرة النص الرقمي المترابط، أجدني أعود إلى ساحة اللعب، حيث تتحقق الأهداف ليس فقط بالركلات، بل بما يشبه الروابط التشعبية في نص افتراضي تفاعلي.

في كل مباراة، ثمة شبكة من التمريرات، من القرارات اللحظية، من الاحتمالات التي تتولد مع كل لمسة وكل حركة. إنها ليست مجرد لعبة، بل نظام من العلاقات، شبيه إلى حد كبير بالبنية غير الخطية للنص الرقمي. حين يمرر لاعب الكرة إلى زميله، فإنه لا يسلمها فقط، بل يفتح أمامه "رابطًا" يقوده إلى مساحة جديدة، إلى احتمال مختلف في الحكاية، إلى مسار يؤدي – أو لا يؤدي – إلى الهدف.

إن النص الرقمي المترابط، كما عرّفه تيد نيلسون في ستينيات القرن العشرين، هو ذلك النص الذي لا يُقرأ من البداية إلى النهاية، بل يُخاض فيه كما تُخاض مباراة كرة قدم: عبر قفزات، روابط، اختيارات، مسارات بديلة. واللاعبون في الفريق الواحد، مثل العقد في شبكة نصية؛ كل عقدة (أو لاعب) تفتح مجالًا جديدًا للمعنى، أو للهجوم، أو للدفاع. وهنا تكمن المعجزة: في أن المباريات ليست "خطية" كما نظن، بل تُبنى فوق فسيفساء معقدة من الاختيارات اللحظية التي تُقرأ بأقدام اللاعبين كما يُقرأ النص الرقمي بأعين وقرارات القارئ التفاعلي.

حين يركض الجناح الأيمن متجاوزًا المدافع، فهو يخلق "رابطًا تشعبيًا" جديدًا. إن تمرير الكرة إليه ليس فقط تمريرًا، بل هو بمثابة "نقرة" في النص تؤدي إلى صفحة جديدة: عرضية، تسديدة، أو ربما خسارة للكرة. هذا اللعب الدائم بين الإمكانات، يذكرني بما يتيحه النص الرقمي من انفتاح على عدد غير محدود من المسارات والمعاني.

لا يمكن لقارئ النص الرقمي أن يدعي امتلاك المعنى كله. تمامًا كما لا يستطيع مدرب كرة القدم أن يتحكم بكل القرارات داخل الميدان، حتى لو خطط لكل شيء. في النهاية، هناك عنصر حاسم لا يمكن التنبؤ به: اللاعب، القارئ، اللحظة. إنهما – النص والمباراة – لا يكتملان إلا بفعل "الآخر" الذي يدخل اللعبة، فيحوّل الاحتمال إلى حدث.

وعلى غرار الطريقة التي يُصمم بها كاتب النص الرقمي الروابط التشعبية لتوجيه القارئ بين المقاطع، يخطط مدرب الفريق التمركزات والتكتيكات، ولكنه في الحالتين، يُدرك أن الحرية تُفسد الخطية، ولكنها تخلق الجمال أيضًا. فهل ثمة أجمل من هدف مفاجئ ينبثق من سلسلة تمريرات عفوية؟ وهل هناك أمتع من مسار سردي خفيّ في رواية رقمية لم يخطر حتى ببال الكاتب أن يُكتشف بهذه الطريقة؟

من زاوية أخرى، لا بد من الاعتراف بأن لكل من كرة القدم والنص التشعبي علاقة خاصة بالجمهور. في الأولى، الجمهور يصرخ، يتفاعل، يُعيد تأويل كل حركة داخل الملعب. وفي الثانية، القارئ هو من يختار طريق القراءة، يقرر أي رابط ينقر، ويعيد تشكيل المعنى كما يشاء. ففي كلا الحالتين، لا يكتمل العمل – سواء أكان مباراة أو نصًا – إلا بفعل الآخر. المتلقي ليس متلقيًا صامتًا، بل مشاركا فعّال يعيد خلق النص/اللعبة كل مرة من جديد.

ولعل ما يزيد هذا التقاطع جمالًا، هو أن كليهما – كرة القدم والنص الرقمي – يواجهان اليوم التحدي نفسه: الأتمتة، الخوارزميات، التنبؤ. هناك محاولات حثيثة لتسخير الذكاء الاصطناعي في تحليل كل شيء، من تحركات اللاعبين إلى احتمالات اللعب الأمثل، ومن قرارات القراء إلى توقّع المسارات النصية الأكثر جاذبية. لكن هل يمكن فعلًا اختزال الجمال في التوقعات؟ أليست اللحظة التي لا يمكن التنبؤ بها هي قلب الفن وروحه؟

في إحدى مباريات كأس العالم، حين مرر ليونيل ميسي الكرة بالكعب دون أن ينظر، بدا وكأنه "يكتب" رابطًا غير متوقع في قصة المباراة. هذا هو جوهر اللعب، وجوهر الكتابة التفاعلية أيضًا: المفاجأة، الانزياح، الاحتمال.

إن كرة القدم، حين تُشاهد بهذا المنظور، تصبح نصًا مفتوحًا. وكل مباراة هي رواية غير مكتملة، تتشكل كما يشاء اللاعبون، أو القارئون، أو حتى الصدف. أما النص الرقمي، فيبدو وكأنه يحاكي هذه الحياة المليئة بالمفاجآت والاختيارات، حيث لا نهاية واحدة، بل نهايات متعددة، وأهداف لا تُسجّل فقط في الشباك، بل في الخيال.

وهكذا، أعود إلى ملعب الطفولة، وأعود إلى شاشة الحاسوب، وأجد أن بين الركلة والنقرة، بين التمريرة والرابط، بين الهدف والمعنى، جسرًا من الإبداع والمشاركة. وبين الكرة والنص، كائن جديد يولد: حكاية تتحقق في اللعب، ولا تُقرأ إلا بالحركة.

0 التعليقات: